فاجأني صديقي المحلل المالي الأسترالي بالقول: «لقد انتهت الصين»، فرددت عليه مستغرباً: كيف وهي التي تملك أكبر رصيد من الاحتياطي النقدي (بالعملة الصعبة)؟ فرد علي قائلاً: إن هذه الاحتياطيات يقابلها دين عام بنفس الحجم، طبعاً الصديق الأسترالي، كان يتحدث من واقع تأثر اقتصاد بلاده وعملتها الوطنية (الدولار الأسترالي) بشكل سريع بالانهيار الكبير والمفاجئ في أسعار أسهم البورصات الصينية، والذي بلغت نسبته نحو 30% في الأسابيع القليلة الماضية.
فهل فعلاً يأفل نجم الصين وعظمتها الاقتصادية التي أبهرت العالم بسرعة تعملقها واحتلالها للمرتبة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة، بقياس قيمة إجمالي الناتج المحلي؟ وهل يمكن أن يكون الدين العام الصيني سبباً في تعطل الماكينة الاقتصادية الصينية، وتراجع قدرتها على توليد وتائر النمو العالية التي عُرفت بها؟
سؤال كبير ويثير الرعب، الذي لا يقل عن رعب علائم نشوب الحرب، في أوصال أسواق واقتصادات العالم قاطبة، لأنه يتعلق بثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الأمريكي من حيث إجمالي الناتج المحلي (10.4 تريليون دولار بنهاية 2014 بحسب صندوق النقد الدولي، بما يشكل 16.7% من الاقتصاد العالمي)، وأكبر اقتصاد إنتاجي في العالم، وأكبر دولة مصدرة للسلع والبضائع، وثاني أكبر دولة مستوردة للسلع والبضائع في العالم، وأسرع سوق استهلاكي نمواً، فضلاً عن الروابط والتشبيكات المعقدة التي نسجها مختلف قطاعات المال والأعمال الصينية مع نظرائها في مختلف أرجاء العالم.
على أية حال لو وضعنا هذا التساؤل في خانة المسار الثاني لعوامل حركة السوق والأموال الدوارة فيها، ونقصد به المسار غير الاقتصادي أو الفني الموازي للمسار الأول والأساسي المتعلق بالأساسيات الاقتصادية، فإننا بالتأكيد سنجد ما يثير القلق، ما إن نبدأ بتتبع ومطالعة ما تقذف به من معلومات وتحليلات الآلة الإعلامية الاقتصادية الضخمة في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تعتبر أحد مصادر صناعة القرار المالي والاقتصادي الدولي، أما إذا وضعناه في مساره الأول والطبيعي، فسنجد ما يلي:
لقد وصلت نسبة إجمالي الدين الصيني (Total debt) الذي اختارته مجلة «الإيكونومست» قصداً، كمؤشر، لتهويل المشكلة الاقتصادية في الصين، إلى 250% من إجمالي الناتج المحلي، لكن هذا المؤشر يضم الديون الحكومية (أي الديون الحكومية الداخلية والخارجية المسؤولة عن سدادها الحكومة)، وديون الشركات والديون العائلية، هذا المؤشر إذا ما أخذناه، كما هو، في حالة الولايات المتحدة مثلاً، سنجد أن إجمالي ديونها (حاصل جمع مديونية الحكومة ومديونية الشركات ومديونية العائلات) يصل إلى 331.7% من إجمالي ناتجها المحلي، ومع ذلك فإن هذا لم يؤدِ إلى انفجار الاقتصاد الأمريكي من الداخل، على الأقل حتى الآن (أخذاً بعين الاعتبار أن هناك من مازال يعتقد أن ذلك سيحصل، وأن حدوثه مسألة وقت وحسب)، ومع ذلك ففي الواقع أن الدين العام (Public debt) الأمريكي، أي الديون الفيدرالية الحكومية الداخلية والخارجية، تبلغ نسبتها حالياً حوالي 104% من إجمالي الناتج المحلي الأمريكي، وفي الصين فإن هذا المؤشر (نسبة الدين العام إلى الإجمالي) لا تتجاوز نسبته 64% بحسب معهد ماكنزي العالميMcKinsey Global) Institute).
جدير بالذكر أن نسبة المديونية الحكومية إلى إجمالي الناتج المحلي، هو مؤشر عادة ما يستخدمه المستثمرون لقياس مدى قدرة الدولة على سداد ديونها في المستقبل، ولهذا المؤشر تأثيره بطبيعة الحال على تكلفة استدانة الدولة ومعدل العائد على سنداتها التي تصدرها وتطرحها للاكتتاب العام، لاسيما طرحها في أسواق المال العالمية.
تحتفظ الصين باحتياطيات نقدية بالعملة الأجنبية بلغت في يوليو الماضي 3.651 تريليون دولار انخفاضاً من 3.993 تريليون دولار في شهر يونيو من العام الماضي (بنك الشعب الصيني البنك المركزي)، إلّا أن هذا الاحتياطي يضعها على رأس قائمة الدول في العالم من حيث هذه الاحتياطيات تليها اليابان باحتياطيات بلغت في شهر يونيو/حزيران الماضي 1.242 تريليون دولار (صندوق النقد الدولي)، أيضاً فإن الصين أضافت في شهر يوليو/تموز الماضي 19 طناً من الذهب بما قيمته 700 مليون دولار (بسعر الأونصة في نهاية شهر يوليو الماضي البالغ 1658 دولاراً)، إلى احتياطياتها من الذهب لتبلغ 1677.30 طن، وهي تحتل المرتبة السادسة في العالم في الاحتياطيات الذهبية بعد كل من الولايات المتحدة وألمانيا وصندوق النقد الدولي وإيطاليا وفرنسا. علماً بأن الصين هي أكبر منتج للذهب في العالم.
أيضاً، علينا أن نتذكر، أنه في حين كان الزعماء الصينيون السابقون يعملون على تحفيز النمو كلما شعروا بحدوث تباطؤ في نمو الاقتصاد، فإن الرئيس الحالي خي جيبنغ، قد اختط في عام 2013 ما أسماه ب «سياسة الاعتيادي الجديد» (New normal)، والتي يتم بموجبها التركيز بصورة أقل على النمو الاقتصادي وبصورة أسرع على «الإصلاح الهيكلي» (Structural reform). وهنا فقد كان لتغيير بعض الضوابط المالية (Fiscal rules) دور في تصعيب الإنفاق من جانب الحكومات المحلية، ولعل انخفاض معدل التضخم إلى أدنى مستوى له منذ خمس سنوات (1.1%) وتراجع مؤشر أسعار المنتجين، يفصحان عن أن الحكومة الصينية هي نفسها التي عملت حتى وقت قريب على كبح النمو.
والحال أن شريحة كبيرة من الدين العام الصيني سببها مسارعة الحكومة الصينية اعتباراً من عام 2009 لسد الثغرات التي خلفتها الأزمة المالية التي حدثت في الولايات المتحدة، وانتقلت إلى أوروبا، على الاقتصاد الصيني.
لكن في نهاية المطاف فإن أضرار العوامل غير الاقتصادية (النفسية وغيرها) قد لا تتمكن الأساسيات الاقتصادية من احتوائها في مهدها، فتكون سبباً في تداعي واجتياح آثارها حتى المواقع الحصينة في الاقتصاد الصيني، لاسيما في ظل الأوضاع المضطربة التي يمر بها الاقتصاد العالمي.
حرر في 30 أغسطس 2015