تُعيد الهَبَات ضد الفساد والمفسدين في العراق ولبنان وربما في غيرهما من البلدان الاعتبار للقضية الجوهرية في التناقض القائم في مجتمعاتنا، الذي هو تناقض اجتماعي بين القلة التي تستأثر بالثروات والأغلبية الساحقة من الناس المحرومة من شروط العيش الحر الكريم، وهو التناقض الذي كان في أساس انفجار الانتفاضات الشعبية فيما مضى، لكن جرى، بقدرة قادر، تحويل الأمر إلى صراعات بين المذاهب والطوائف يكون الفقراء والشباب وقوداً لها، فيما مصالح وثروات من يدعون تمثيلهم تتضاعف.
في ساحة التحرير في بغداد وفي وسط العاصمة اللبنانية يتحد المسلمون والمسيحيون، السنة والشيعة وغيرهم من ملل وأقليات، حول القضية التي وحدتهم فيما سبق ويجب أن توحدهم دائماً في أن يكونوا صفاً واحداً في العمل من أجل توزيع عادل للثروات، وبناء دول مدنية لا دينية أو طائفية وفي هذا مصدر قوة هذه الهبات، التي تبرهن أن الفساد لا دين أو مذهب له، وما يجري ليس أكثر من استخدام للأديان والمذاهب والطوائف في التمويه على جوهر الأمر، وخداع البسطاء من الناس وتخديرهم أو إلهائهم بالشعارات الدينية.
يجب نقل ساحة النقاش والعمل إلى مجالها الحيوي: فضح ومحاربة الفساد الناجم عن بقاء المسؤولين والوزراء في مناصبهم لسنوات طوال وأحياناً لعقود متوالية، ما يخلق شبكات من المنافع الراسخة العصية على الرقابة والمساءلة، ويؤدي إلى تراكم الثروات غير المشروعة ويغري بالتطاول على المال العام واستنزاف ميزانيات الدول في أعمال ومصالح خاصة.
مكافحة آفة الفساد لن تتم، بصورة جدية، إلا عندما يجري الاقتراب الفعلي من الحالات الصارخة، الكبيرة له، الممثلة في فساد قمم السلطات والحكومات، واستهداف مقومات هذا الفساد في البنى والهياكل الرئيسية في الحكومات والمجتمع، وهو ما يفعله العراقيون واللبنانيون اليوم حين يشيرون بالبنان إلى رموز النخب السياسية والمالية التي تسرق المال العام، وتفقر البلاد والعباد.
على صلة بهذا، يجب أن يكون الظرف الموضوعي الناشئ اليوم رافعة للقوى والتيارات المدنية والتقدمية التي تقاعست طويلاً عن أداء دورها، لتذود عن برامجها الاجتماعية في الدفاع عن مصالح شعوبها، والمعبرة عن شرائح المجتمعات كاملة، بديلاً لبرامج زعماء الطوائف.
ينشأ اليوم جيل عربي شاب جديد منفتح على المعرفة ووسائل الاتصال الحديثة، لكنه محبط من انسداد الأفق أمامه، يرنو إلى دور هذه القوى المدنية لتأخذ به نحو المستقبل.
حرر في: 25/08/2015