في أي عمر يمكن للكاتب أن يكتب رواية؟ سؤال يوحي به فوز الأكاديمي والباحث التونسي شكري المبخوت بالنسخة العربية من جائزة «البوكر» في دورتها الأخيرة، عن روايته الأولى والوحيدة، حتى اللحظة ” الطلياني”.
ليس المبخوت كاتباً شاباً يُعرف للمرة الأولى، على الأقل على مستوى وطنه تونس، وعلى الصعيد الثقافي المغاربي عامة، ولكنها المرة الأولى التي يكتب فيها رواية بعد أن حقق صيتاً ومكانة في مجالات البحث الأكاديمي والنقد الأدبي، وكانت هذه الرواية من الجودة ما أهّلها لتنال «البوكر» وسط منافسة قوية مع روايات أخرى مهمة.
طالما نظرتُ، كما ينظر غيري كثيرون، بشيء من الغرابة لـ«جرأة» الكثير من الشبان والشابات، خاصة في بلداننا الخليجية، حيث تتوافر إمكانات النشر أكثر مما هي عليه في البلدان العربية الأخرى، في إصدار روايات، من دون أن يمروا بتجارب سابقة في الكتابة، فالرواية فن صعب، يحتاج إلى رؤية معرفية بانورامية لا يتوفر عليها، عادة، إلا الكاتب الذي «اشتغل» على نفسه بالقراءة والاطلاع ومراكمة الخبرات والتجارب الحياتية التي توسع من أفقه ورؤيته.
ومن وجهة نظر ريجيس دوبريه فإننا حين نمتلك حلاً أو إجابة لمشكلة ما، نكتب كتاباً فكرياً أو بحثاً، لكن عندما نعيش مشكلة ما أو عندما لا نعرف هذه المشكلة بوضوح فإننا نكتب رواية، فهناك مسائل لا يمكن حلها أو حسمها داخل الوجود مثل الموت والحب، وفي حالات مثل هذه ينبغي أن نكتب الرواية، وتأتي هذه الفكرة في إطار مناقشات عامة عن العلاقة بين أجناس الكتابة، وتقدم جنس الرواية مثلا، فيما تتراجع مكانة الشعر في الحياة الثقافية.
وتأتي رواية «الطلياني» في إطار صعود ملفت للإصدارات الروائية، التي تتراوح في المستوى، ولم يعد الأمر محصوراً في الحواضر الثقافية العربية التقليدية كمصر وسوريا ولبنان، بل صرنا شهوداً على أعمال روائية لافتة من «الأطراف» العربية مشرقاً ومغرباً، وأذكر أني حين عبرت منذ سنوات، لزميلة تونسية مشتغلة بالنقد الأدبي، عن ثنائي على رواية لكاتب تونسي كنت قد قرأتها، يومها، للتو، قالت: لن تندم أبداً حين تقرأ أي رواية تونسية، قاصدةً أن الشوط الذي قطعته الرواية في تونس يجعل من المتعذر أن تصادف رواية ضعيفة.
لعل الزميلة ألقت عبارتها بين الجد والهزل، فيما يمكن أن ندرجه في نطاق الفخر بمنجزات الوطن الذي ينتسب اليه المرء، تونس في حالة زميلتنا هذه، لكن ليست الرواية التي قرأتها يومذاك فقط، وإنما ما تلاها من روايات قرأتها للكاتب نفسه، أو لكتاب آخرين من تونس، تجعل من كلامها صحيحاً، وهذا ما أعادت التأكيد عليه رواية شكري المبخوت هذه.
هذه الرواية، شأنها شأن روايات تونسية أخرى قرأتها، بينها روايات الحبيب الصالحي، ورواية حسن بن عثمان: «أطفال بورقيبة» تعنى بتحولات المجتمع التونسي في مرحلة ما بعد الاستقلال، مروراً بالحقبة البورقيبية، التي مهما قيل بشأنها من سلبيات، فإنها الحقبة التي وضعت فيها ركائز الحداثة التونسية، وانتهاء بعهد زين العابدين بن علي، الذي تكثفت فيه التناقضات حتى بلغت حد الانفجار في الربيع التونسي مطالع 2011، وهو تكثيف عبر عنه الحبيب الصالحي، من قبل، في روايته: «نساء البساتين» التي ألح فيها على مراقبة مَعلمين بارزين، مركز الشرطة والجامع المحاذي، في نظرة لماحة لمكانة سلطتين تتنازعان النفوذ، الدولة البوليسية والمؤسسة الدينية، ما يجعلنا نفهم بعد ذلك كيف حدث انه عندما تصدعت الدولة البوليسية تحت وقع خطى الجماهير الهادرة التي أطلقها إلى شوارع تونس محمد البوعزيزي، كانت السلطة الدينية هي الأكثر جاهزية لقطف ثمار ما جرى.
فرغم القمع الشرس، كانت تلك السلطة الدينية توسع دائرة نفوذها، مستغلة حقيقة أن التحديث، خاصة بعد تنحية بورقيبة، بات مفروضاً بسطوة الدولة، وليس نابعاً من بنى المجتمع التحتية، فيما يستغرق بسطاء الناس البحث عن لقمة العيش التي عزَّت بفعل إخطبوط الفساد الذي استشرى.
بصورة من الصور يتحرك شكري المبخوت في الدائرة ذاتها، ولكنه اختار زاوية أخرى لمقاربة تحولات مجتمعه، حين جعل من المناضل اليساري محوراً في بنية الرواية، متحركاً بذلك في فضاء يمكننا من خلاله الوقوف على تحولات تيار فكري مهم في الحياة العامة، هو التيار اليساري، لا في تونس وحدها وانما في البلدان العربية الأخرى التي عرفت بصعود التيارات اليسارية فيها في مرحلة مهمة من تاريخنا العربي، وقد علل المبخوت اختياره لهذه المقاربة بالذات بكون اليسار مُجسِداً للقيم الكونية الحديثة، رغم الانكسارات التي واجهها ويواجهها تحت ضغط أكثر من عامل: القبضة الأمنية الصارمة التي استهدفت مواقع ومناضلي هذا التيار بالقمع والاقصاء، الصعود المدوي للتيارات الاسلامية تحت سمع وبصر الحكومات، وفي حالات كثيرة بتشجيع منها، حين وجدت فيها ضالتها لمحاصرة نفوذ اليسار في صفوف الشبيبة وفي المواقع الثقافية ومؤسسات المجتمع المدني، وأخيراً بسبب ما وقعت فيه التيارات اليسارية ذاتها من أخطاء.
لم تكن تونس استثناء من هذا، بل لعلها تشكل بيئة نموذجية لدراسة وتقصي تلك التحولات، منذ أن كان اليسار مهيمناً على الحركة الطلابية في الجامعة، وذا نفوذ في الحركة النقابية، فضلاً عن حضوره في الحياة الثقافية والفكرية في المجتمع، وهو واجه ذات الاختبارات التي واجهها اليسار في البلدان العربية الأخرى، ربما في أدق التفاصيل، وهو ما سعت الرواية لقوله من خلال شخصية عبدالناصر المعروف بـ«الطلياني» لما كان عليه من وسامة.
من خلال التحولات في حياة الطلياني الذي تموضع في مؤسسة صحفية خاضعة للهيمنة الحكومية بعد أن غادر كلية الحقوق في الجامعة، التي كان يتعمد التخلف عن تقديم امتحاناته ليبقى فيها أطول أمد ممكن لقيادة العمل الطلابي، يأخذنا الكاتب للتعرف على مهارات المنظومة السياسية المهيمنة في احتواء اليسار وتدجينه، خاصة بعد أن أصبح يخسر مواقعه أمام تقدم الاسلاميين، الذين انفتحت شهيتهم لا للاستحواذ على المواقع المجتمعية وحدها، وإنما للظفر بالسلطة السياسية ذاتها. فعبدالناصر ـ الطلياني الذي عرفناه مناضلاً طلابياً متفانياً، يطل علينا، فيما بعد، صحفياً ماهراً دون أن نعثر على أية اشارة الى أن نضاله استمر، بل نجده خارجاً عن أي سياق تنظيمي، غارقاً في المغامرات العاطفية مستغلاً وسامته ولباقته، ومعوضاً عن العقد النفيسة الدفينة الناشئة من محاولة اغتصابه وهو فتى صغير من إمام جامع البلدة التي نشأ فيها.
بعض من كتبوا عن الرواية حاولوا أن يروا فيها شهادة ضد دور اليسار التونسي، والعربي عامة، وهذا ما لا نوافق عليه، فالكاتب لم ينطلق من أرضية الخصومة لليسار، إنما على العكس تماماً، فهو أراد باختياره شخصية بطله أن يرصد تحولات المجتمع في تونس خلال الحقبة التي تناولها الرواية، من خلال تتبع مسار أحد التيارات الفاعلة فيه، مستعيناً بأدوات التحليل المختلفة، خاصة السيكولوجية منها وهو يسبر أغوار شخصيات الرواية كلها، لا البطل وحده، والحق اني لم أستسغ حمولة المفردات الماركسية التي طغت في الصفحات الأولى من الرواية التي جاءت على لسان شخصيات الرواية، لأني شعرت بأن الكاتب استغل عدته الفكرية في إقحامها في الحوار، ربما لتحدره من الجذر السياسي والفكري نفسه الذي تحدر منه بطله الطلياني، ولكنها حملت شحنة تقريرية كان بالإمكان تفاديها، وربما وشت بشيء من السخرية تجاه تلك المفردات، وهو ما لا أحسب أن الكاتب توخاه، حكماً مما أدلى به من أحاديث وشهادات بعد فوز الرواية، وحكماً أيضاً من سيرته الفكرية المعروفة.
ليس شكري المبخوت أول من جعل المناضل اليساري وانكساراته محوراً في العمل الروائي، فلقد فعل ذلك قبله روائيون عرب آخرون، بينهم، مثلاً، حنا مينه في «الثلج يأتي من النافذة»، ومثله فعل عبدالرحمن منيف في «شرق المتوسط» و»الآن هنا»، وغيرهما فعل آخرون، لكن المبخوت لم يهدف في «الطلياني» رصد أو تقصي القمع الشديد الذي تعرض له المناضلون اليساريون في بلدانهم، وتسليط الضوء، من وراء ذلك، على محنة الحريات وغياب الديمقراطية، كما فعل سابقوه، وإنما ذهب أبعد في رصد إشكاليات نشاط اليسار في بيئة معقدة، واقفاً عند أثر الإرتكاسات النفسية والضغوط الاجتماعية والسياسية على وعي وسلوك المناضل اليساري، ومآلات الاحباط وفقدان الثقة في إمكانيات التغيير التي وقع فيها الكثير من منتسبي اليسار جراء التحولات في الوضع العالمي وفي بلدانهم أيضاً، وهو الأمر الذي تبدى واضحاً في عجز اليسار أو ضعفه في التعامل مع الإنعطافة الكبرى التي يشهدها عالمنا العربي، التي غاب عنها دور هذا اليسار أو كاد.
تبدو «الطلياني» متسقة مع الفضاء الذي يتحرك فيه الكثير من المنجز الروائي في تونس، وهي ليست بالضرورة العمل الروائي التونسي الأفضل، لكن فوز رواية من تونس بالبوكر العربية مستحق، خاصة وأن روايات تونسية أخرى سبق لها أن بلغت القائمة القصيرة للبوكر في أعوام سابقة، ويبدو مفهوماً أن تونس بالذات، لا غيرها، تفوز بجائزة عن رواية ترصد مقدمات ما تعارفنا على وصفه بالربيع العربي، فهي مهد هذا الربيع، وهي الأكثر تأهيلاً للتغلب على الارتدادات السلبية الناجمة عن حجم التغيير الكبير الذي وقع، والأهم من هذا أن البيئة الابداعية والثقافية في هذا البلد أهل لأن تقدم أعمالاً تستوقف لا لجان التحكيم وحدها، وإنما مجمل حركة النقد والقراءة في العالم العربي.