المنشور

نبذ خطاب التأزيم والكراهية



مصدر التناقض في أي مجتمع مصدر اجتماعي ذو صلة بتوزيع الثروة على
المواطنين بالعدل والمساواة، حيث أن هذه الثروة حق عام للمجتمع كله، ومن حق جميع
الأفراد، من مختلف المكونات المجتمعية الانتفاع بها بشكلٍ يؤمن لهم الحياة الكريمة،
لذا فان التأكيد على فكرة المواطنة هو المدخل الصائب للتصدي لقضايا المجتمع
ومعضلاته. 
  
 لكن للأسف الشديد فان الطائفية،وعياً
وسلوكاً، لا المواطنة، باتت في ظروف اليوم ممارسة سياسية ومجتمعية تتورط فيها قوى
متنفذة وجمعيات سياسية وصناديق خيرية ومنابر دينية وصحافية ومواقع اليكترونية. 
  
عندما كانت تياراتنا الوطنية والديمقراطية في صدارة المشهد السياسي نجحت
في خلق وعي وطني عميق لدى منتسبيها وأنصارها وجمهورها، عمت تأثيراته على المجتمع، وفي
أصعب الظروف استطاعت هذه التيارات أن تُبقي جذوة الأمل حيةً في القلوب والعقول
بالمستقبل الموحد للشعب. 
  
لكن مجمل التطورات الموضوعية التي شهدناها في السنوات الأخيرة خاصة،
والناجمة عن التحولات المحلية وعن التأثيرات الإقليمية  في المحيط المجاور لنا، الذي هبت علينا بعض
رياحه المسمومة أدت إلى شيوع الخطاب الطائفي البغيض، وصار يمارس تأثيره على عامة
الناس، فلم تعد المسألة مواجهة الاستحقاقات الوطنية الجامعة، وإنما التعبير عن
مصالح الطائفة، مما ولدّ مفاهيم ومفردات جديدة حين تُطلق فان التفكير ينصرف نحو
الطوائف لا نحو المجتمع كاملاً. هذا الخطاب الطائفي غالباً ما اقترن بدرجة من
السطحية السياسية والابتذال التي نطالع نماذج يومية لها في الصحافة ووسائل الاتصال
الجماهيرية، وفي بعض خطب المنابر الدينية. 
  
في البلد اليوم خطابان: واحد للحوار وآخر للتأزيم، ولخطاب الحوار مريدون
ودعاة في مختلف مكونات المجتمع، ممن يدركون أن مصلحة البلد هي في الخروج من محنتها
الممتدة منذ سنوات، والتغلب على الجراح التي أُثخن بها المجتمع، والذهاب إلى
المستقبل بالاستفادة من التجربة المريرة التي مرت بها البلاد، والتي وقعت كل
الأطراف فيها وبدون استثناء في أخطاء شخَّصها بموضوعية وحيادية تقرير اللجنة
المستقلة لتقصي الحقائق. 
  
وبمقابل دعاة الحوار هناك دعاة التأزيم المنتفعون من استمرار الأزمة،
لأنها وضعتهم في مواقع لم تكن لهم وليسوا أهلاً لها، وبينهم من يريدون دفع البلاد
نحو الهاوية جرياً وراء مشاريع مغامرة، دون التبصر في العواقب وفي حجم الخسائر
والتضحيات التي وقعت ويمكن أن تقع. 
  
وتجارة دعاة التأزيم هي التخوين، فكل من
يختلف معهم في الرأي والموقف هو خائن، وكان نصيب قوى التيار الوطني الديمقراطي من
هذا التخوين كبير، فأسهل وأقصر طريق للهروب من المساهمة المخلصة في رسم خريطة طريق
خروج البلد من محنتها هو التمترس في موقع التخوين، فالفاقد للجرأة في أن يطالب بالإصلاح
وانتقاد الفساد يجد ضالته لستر عجزه في كيل الهجوم على دعاة الوحدة الوطنية التي
تشربوا روحها واستمروا يناضلون في سبيل تحقيقها. 
  
يتناول للكاتب الرائع  فالنتين راسبوتين  في روايته “الحريق”،  أحداث ليلة واحدة من حياة بلدة سيبيرية تلتهم
النيران مستودعاتها الهائلة، وتهدد البلدة كلها بالإهلاك، لكنه لا يكتفي بوصف
فاجعة الحريق، إنما يرصد تشوهات النفس الإنسانية والتشوه الخلقي الذي أصاب البشر،
حين يدفعنا لتأمل الفوارق بين المخلصين الساعين لإطفاء الحريق، إنقاذاً للبلدة
وأهلها، وأولئك الذين يصبون الزيت في أواره، لأن استمراه يؤمن استمرار المنافع
التي تحققت لهم بسببه، وتعاني البحرين اليوم من مثل هؤلاء، الذين نذروا أنفسهم
لمنع أي محاولة لتجاوز الوضع المأزوم. 
  
المسألة الطائفية لا يمكن أن تعالج بأدوات طائفية وإنما بأدوات نافية
ومتجاوزة لها، فما أسهل أن يجري التخندق في  صفٍ معين، ومن هناك توصم الآخرين بالخيانة وعدم
الوطنية.   والتحدي
الماثل أمام كل من يريد خيراً للبحرين هو أن يخرج من طائفته ليدخل في الوطن. 
  
وفي مقدمة ذلك أن
نتفق على أننا بحاجة إلى حوار وطني جدي حول القضايا التي تعني الجميع في هذا الوطن
من أجل تجاوز الوضع المحتقن والتغلب على معوقات وكوابح البناء الديمقراطي والعيش
المشترك والشراكة السياسية الفاعلة بين الدولة والمجتمع، وتأمين الاستقرار والأمن
على أرضية تنبذ العنف في كافة صوره، وترسي الاحتكام لأساليب العمل السلمي الديمقراطي
بما يعيد للبلد عافيتها المفتقدة. 
  

·       
نشر في عدد أغسطس
/ آب 2015 من نشرة “التقدمي”