على مدى سبعة أيام كانت كل أنظار العالم موجهة صوب قصر كوبورغ في العاصمة النمساوية فيينا، حيث كانت تدور المفاوضات خلف أبواب مغلقة بين إيران ومجموعة 5+1، بهدف التوصل إلى اتفاق حول البرنامج النووي الإيراني. وفي مساء يوم الثلاثاء 14 يوليو/تموز 2015، أعلنت أطراف التفاوض توصلها إلى هذا الاتفاق الذي استغرق التفاوض حوله اثني عشر عاماً.
ومثل الأيام السبعة التي سبقت «إطلاق الدخان الأبيض» من على شرفة القصر النمساوي، إيذاناً بإعلان التوصل للاتفاق، فإن الأيام القليلة التي تلته، كانت هي الأخرى حافلة بالأخبار والتحليلات والتأويلات المتعلقة بهذا الاتفاق والنتائج التي سيسفر عنها وانعكاساته المتباينة والمختلفة الأبعاد على المنطقة وعلى العالم، الذي لم تكن إيران عملياً، وعلى مدى ثلاثة عقود تقريباً جزءاً من حياته السياسية والاقتصادية اليومية الجارية. ففيما شطح الكثيرون بخيالهم، بمن فيهم من هم في الإعلام الغربي الأكثر حرفية ومهنية افتراضاً، حول الآفاق التي ستفتحها هذه الصفقة أمام العلاقات الدولية ، الشرق أوسطية تحديداً، وأمام جمهورية إيران الإسلامية، فقد ذهب بعضهم وقت إعلان التوصل إلى هذا الاتفاق في شهر إبريل/نيسان الماضي (قبل الشروع في صياغته وتوقيعه)، وهو كاتب مرموق في ال«إندبندنت» البريطانية لحد القول القاطع إن الولايات المتحدة أخذت جانب إيران على حساب «إسرائيل»، وإن هذه الصفقة ستعيد لإيران دورها الذي كانت تلعبه أيام الشاه المخلوع كشرطي يحمي المصالح الأمريكية والغربية في الخليج العربي. وما كادت أطراف التفاوض تعلن اتفاقها على الصيغة النهائية للاتفاق حتى عاد الكاتب نفسه ليعيد نسخ قراءته السابقة نفسها بالصحيفة ذاتها.
هذه وغيرها تبقى تكهنات صحفية تندرج في خانة التكهنات السياسية التي تحتاج بالتأكيد إلى حقائق اقتصادية تسندها ، رغم أن رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بحسب ما ورد بالنص في وثيقة الاتفاق (سوف ينص قرار مجلس الأمن الدولي الذي ستتبناه مجموعة 5+1 وممثلة الاتحاد الأوروبي وإيران، وفقاً لخطة العمل المشتركة والشاملة (Joint Comprehensive Plan of Action (JCPOA”»، المشار إليها في الاتفاق ، على رفع كامل نصوص قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالمسألة النووية الإيرانية، لاسيما تلك المتعلقة بصناعة النفط والغاز الإيرانية، والإفراج عن أرصدتها المحتجزة لدى الغرب – رغم أن هذين الإجراءين سوف يسهمان بلا شك في إراحة الخزينة والموازنة العامة الإيرانية ، وتوفير طاقات إنتاجية واستثمارية وتصديرية إضافية للاقتصاد الإيراني ، إنما مع ملاحظة أن رفع العقوبات سيكون مرتبطاً بتزكية الوكالة الدولية للطاقة النووية لمدى تقيد إيران بتنفيذ كامل بنود الاتفاق ، وشمول ذلك لبعض التقييدات المنصوص عليها في الملحق الخامس للاتفاقية ، وبالتالي فإن حساب مفاعيل هذا الرفع يفترض أن تؤخذ في الحسبان ، حيث جرى تضمين الاتفاق بنداً ينص على تشكيل لجنة تحمل مسمى E3/EU+3 وتضم الصين وفرنسا وألمانيا وروسيا الفيدرالية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وإيران وممثلاً رفيع المستوى لمفوضية شؤون السياسات الخارجية والسياسة الأمنية في الاتحاد الأوروبي، تقوم بالإشراف على تنفيذ ما ورد في وثيقة الاتفاق بمساعدة الوكالة الدولية للطاقة النووية المطالبة بموافاة مجلس الأمناء في الوكالة ومجلس الأمن الدولي أولاً بأول بتقارير حول مدى تقيد إيران بالتنفيذ.
بنود الاتفاق ، رغم دقتها ، وحرص المشاركين في صياغتها ، لاسيما حرص المفاوضين الإيرانيين الذين شدّدوا، على ما هو واضح، على تضمين الاتفاق ملاحق بأسماء كافة الشركات والبنوك الإيرانية ، وكذلك أسماء كافة الشخصيات الإيرانية المشمولة بقرارات الحظر المطلوب رفعه عنها بشكل كلي – رغم ذلك ، إلا أن الاتفاق يتسم بالتعقيد العاكس بالضرورة لتعقيدات العلاقات العدائية التي كانت وما زالت قائمة بين الغرب وإيران.
هو عبارة عن صفقة بين الغرب وإيران قريبة الشبه بصفقة «النفط مقابل الغذاء» التي مررها الغرب لنظام صدام حسين في جدار الحصار الاقتصادي الدولي. فصفقة النفط مقابل الغذاء سمحت لنظام صدام حسين بالحصول على «امتيازات» ما قبل وما بعد صفقات مبيعات النفط العراقي لشراء الغذاء والدواء، فيما تتمثل الصفقة المبرمة بين الغرب وإيران في إنهاء الحصار الاقتصادي الدولي المفروض على إيران منذ اثني عشر عاماً مقابل موافقتها على تحجيم برنامجها النووي (خفض عدد أجهزتها للطرد المركزي إلى 5600 جهاز من الجيل الأول IR-1 لمدة 10 سنوات ، وخفض نسبة التخصيب المسموح بها إلى 3.67%، وأن يُحصر هذا النشاط التخصيبي في مفاعل واحد هو مفاعل نطانز ولمدة 15 عاماً ، حيث سيتم تركيب الأجهزة ال 5600 في هذه المنشأة حصراً ، فيما سيتم تخزين الباقي ووضعه تحت الرقابة الدائمة للوكالة الدولية للطاقة النووية، على أن يتم تعويض الأجهزة العاطلة أو المعطوبة (من ال 5600) من المخزون ، وخفض مخزون اليورانيوم من 7 أطنان إلى 300 كيلو ، ومنع إيران من الأبحاث النووية لمدة 15 عاماً . ولكنها بالتأكيد أفضل من نواحٍ كثيرة من صفقة النفط مقابل الغذاء بالنسبة للدولة الإيرانية التي كسبت إنهاء الحصار والاعتراف الدولي ببرنامجها النووي المكرّس للأغراض السلمية.
وهي تشبه أيضا في بعض وجوهها اتفاق خفض الأسلحة الاستراتيجية الأمريكي – السوفييتي المعروف ب«اتفاق ستارت 1» الذي وقعه عن الولايات المتحدة الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب ووقعه عن الاتحاد السوفييتي الرئيس السوفييتي السابق ميخائيل غورباتشوف في 31 يوليو/تموز 1991.
استمرت مفاوضات «ستارت 1» نحو 9 سنوات، حيث انطلقت في مايو/أيار 1982، لكنها سرعان ما توقفت إثر نشر الولايات المتحدة صواريخ متوسطة المدى من نوع بيرشينغ 2 في أوروبا، لتُستأنف المفاوضات بشأنها عام 1985 ، ولتشمل هذه الصواريخ والصواريخ الدفاعية. وقد حُدِّدت مدة سريان هذه الاتفاقية بخمسة عشر عاماً.
إنما ما حقيقة الموقف الإيراني الرسمي والشعبي من هذا التحول الدراماتيكي في وضع إيران الدولي والإقليمي، وما انعكاسات هذا الاتفاق على إيران والمنطقة في السنوات القليلة القادمة؟