صدر للدكتور صادق جلال العظم في مطالع سبعينات القرن الماضي كتاب نُظر إليه على أن به مساساً بما هو مستقر من معتقدات دينية، فأثار يومها ضجة كبيرة ضده، بلغت حد إحالة الكاتب والناشر، الذي هو صاحب دار الطليعة المرحوم الدكتور بشير الداعوق، إلى القضاء، ما يذكرنا، مع الفارق في الموضوع والتوقيت، بالضجة التي تلت صدور كتاب الدكتور طه حسين: «في الشعر الجاهلي»، خاصة أن العظم كتب فيما بعد دراسات ومقالات شكلت نوعاً من إعادة النظر فيما قاله في مؤلفه الإشكالي ذاك، تماماً كما كان طه حسين قد حذف الأجزاء التي أثارت الزوبعة في كتابه، وأعاد إصداره بعنوان جديد هو: «في الأدب الجاهلي». وعلى ما ترويه الأديبة غادة السمان، أرملة الدكتور الداعوق، فإن السيدة سارة غندور، والدة زوجها، وهي من سيدات المجتمع البيروتي المعروفة بنشاطها الخيري والاجتماعي التقت مفتي الجمهورية اللبنانية في حينه الشيخ حسن خالد، فاكتفى بأن قال لها: «قولي لابنك الله يسامحه». لم يرسل المفتي شخصاً ليقتل المؤلف والناشر أو يهددهما، وللمفارقة فإن يداً آثمة دبرت بعد ذلك بعقدين وأكثر تفجيراً ضد سماحة المفتي راح إثره الرجل شهيداً محتسباً عند ربه.
نستحضر هذه الواقعة للتذكير بنمط من رجال الدين الذين يأخذون من الآية الكريمة: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ»، مرشداً ومنهجاً في الدعوة، ما يؤكد رسالة الإسلام في التسامح، خاصة في مجتمعات قائمة على تعدديات دينية ومذهبية وتنوع في المرجعيات الفكرية، المعنية بالتعايش فيما بينها، بما يحصن المجتمعات من الاحتراب والفتن والكراهية، وهي الآفات التي تنخر في مجتمعاتنا العربية اليوم، وتدفع بها نحو التمزق ودولها نحو التقويض.
ولو أن التيارات الإسلامية الناشطة اليوم أظهرت ما يفيد وفاءها للأفكار التنويرية – الإصلاحية في التراث الإسلامي، قديمه وحديثه، ونأت بنفسها عن الأدبيات التكفيرية التي يجري تثقيف الأجيال الجديدة من أعضاء هذه التيارات بها، والتي تنتسب في غالبها لما يمكن وصفه بالتفكير الانقلابي لا الفكر الإصلاحي – التدرجي، لأسدت أكبر خدمة لنفسها ولمجتمعاتها، لأنها تكون بذلك قد خطت خطوات كبرى في «تأهيل» نفسها لتصبح قوى سياسية عقلانية، منفتحة على الأوساط الاجتماعية والسياسية الأخرى، ومطمئنة لها.
حرر في 3 أغسطس 2015