مرة منذ سنوات كنت أقطع رحلة بالقطار بين مدينتين أوروبيتين، كانت رحلة طويلة تستغرق ليلة بكاملها وشطرا من النهار أيضاً. وحين اهتديت إلى قمرة الجلوس المخصصة، وجدت كهلاً منهمكاً في قراءة كتاب، وضعت حقيبتي في المكان المخصص وجلستُ على المقعد في مقابلة الكهل المنهمك في القراءة. كان يقرأ بنهم وشغف واستمتاع، أو هكذا بدا لي. أمر ما كان يشده في الكتاب الذي أمكنني استراق نظرة على غلافه، فقدرت من العنوان أنه يقرأ رواية، وفيما القطار يقطع الطريق الطويل والمدينة التي انطلقنا منها أصبحت خلفنا، فلم تعد هناك أضواء، كانت عتمة تخترقها كشافات الإضاءة المبهرة في القطار وجلبة عرباته وصهيل الصفارات التي كان يطلقها بين الحين والآخر. وكنت ألاحظ أن ثمة تعابير أشبه بالابتسامة ترتسم على شفتي الرجل الذي لم يرفع رأسه عن الكتاب أبدا، ولم يتفوه بكلمة، ثم فجأة ودونما سابق تمهيد وجدته يغرق في موجة من الضحك العالي، شيء أشبه بالقهقهة، ولم أستطع أن أدرك ما الذي جرى له، خاصة أن عينيه ظلتا مشدودتين إلى صفحات الكتاب.
وهو في غمرة ضحكه وغمرة اندهاشي مما يجري لم يجد ما يدعو للتوضيح أو التفسير، ثم إن موجة الضحك إذ توقفت قليلاً سرعان ما عادت إلى الانفجار مرة أخرى، وخطر في بالي أن أمراً ما غير طبيعي في هذا الرجل جعله يتصرف هكذا، قبل أن أفهم أن ثمة مشهداً مُضحكا في الرواية التي يقرأها حمله على هذا الضحك، ويبدو أن هذا المشهد طويل، ما استدعى منه موجات ضحك متتالية، بدليل أنه سرعان ما عاد إلى الهيئة الرزينة الصارمة والجادة التي وجدته عليها عند صعودي للقطار في البداية.
هل يمكن لإنسان أن يضحك كل هذا الضحك المدوي وحده، أي من دون رفيق يروي له نكتة أو يبادله الحديث؟ ثم هل، يمكن لمشهد ضاحك في كتاب، مهما كان ساخرا ومضحكا، أن يستدعي موجة ضحك مثل هذه؟
حسب تقرير علمي عن أسباب الضحك، يعرض لنتائج أبحاث أجراها علماء للإجابة عن السؤال القائل: هل يحس الناس بالمرح لأنهم يضحكون أم أنهم يضحكون لأنهم يحسون بالمرح؟ توصل العلماء إلى معرفة منطقة في الدماغ مسؤولة عن الضحك، حيث أجروا تجارب على دماغ فتاة في السابعة عشرة من عمرها مصابة بمرض الصرع، بأن أدخلوا قطبا كهربائيا في موقع بالفص الأيسر من دماغ الفتاة، فوجدوا أن تمرير تيار كهربائي خفيف في هذا الموقع جعلها تبتسم، وعند تمرير تيار كهرباء أقوى راحت تطلق ضحكات رنانة تعدى السامعين وتجعلهم يضحكون. وحين سئلت عما إذا كانت تضحك من دون سبب، قالت إنها كانت تضحك لأنها كانت تتخيل أشياء مضحكة، بينها قراءة كلام في كتاب أضحكها، بطريقة تذكر بالرجل الذي كان جاري في القطار.
والحق أن معرفة كون الدماغ هو المسؤول عن الضحك، تفسد أوهاماً حلوة عندنا، حين نعرف أن هذا الدماغ على علاقة حتى بأكثر التعابير رقة وجمالا عندنا كالفرح والحزن واللهفة والحب، ولكن حتى بافتراض أن آلية الضحك عند الناس واحدة، يظل أن الناس يضحكون بطرق مختلفة، من الضحك المضيء المبهج، إلى مسحة حزن شفيف تظلل الضحكة الجميلة.
في مؤلفه الجميل «كتاب الضحك والنسيان» يقول ميلان كونديرا: «أن تضحك معناه أن تعيش بعمق»، لعله بذلك يحرضنا على أن نضحك، ربما لأن في الضحك نوعاً من العلاج ضد محبطات الحياة، أو أنه أي الضحك، مضاد حيوي للكآبة التي تنتاب الناس في أوقات تتكثف فيها بواعث الخيبة واليأس في النفس البشرية، وهي، من واقع التجربة المديدة للناس، سريعة الانكسار حتى لو كان هذا الانكسار وقتياً، حيث تتفاوت قدرة البشر على استعادة التماسك الضروري لاستئناف الحياة ومجابهة أعبائها.
السائد في الأذهان أن الإنسان الضاحك، أو كثير الضحك، هو إنسان متفائل، مقبل على الحياة، على خلاف الإنسان المتألم أو الذي يشكو الألم، الذي يقدم على أنه إنسان يائس، قنوط، ومنسحب من الحياة.
هذا التقسيم يبدو متعسفاً. فقد قرأت ما يفيد العكس تماماً. يفرق ما قرأت بين الضاحك وبين المتهكم. فالضحك هو استخفاف بما هو معطى من قيم ووقائع، ونزوع عن الانفصال عنها، رغبة في الانفصال وحده وليس نشداناً للبديل. أما التهكم فتعبير عن إحساس بالفارق بين القيمة المعطاة والقيمة التي ترنو إليها. فالمتهكم هو ذلك الإنسان الذي أدرك الصدع في العالم المحيط به، لذا فإنه حين يتهكم على واقعٍ قائم فإن في ذهنه صورة بديل هذا الواقع، صورة ما يجب أن يكون عليه الحال. لذا فإن التهكم اقترن بالذكاء والنبوغ. كبار الكتاب والفلاسفة كانوا يسخرون مما حولهم، لكن ليس من أجل السخرية، كانوا يرون أبعد مما يراه الآخرون، لذلك فإنهم في واقع الأمر يقدمون البديل، يقدمون الرؤية المضادة للذي يسخرون منه من معطيات.
أما الذي يضحك فقط هو حسب الأستاذ أحمد حيدر في «إعادة إنتاج الهوية» ساذج وجاهل وعاجز عن فهم الضرورة، وبالتالي عاجز عن اقتحامها. والضحك، والحال كذلك، نوعان فإما إنه ضحك الغباء وإما ضحك التواطؤ الذاتي وسوء النية الذي يعفي المرء من مسؤولية الانخراط في تحمل المسؤولية.
كم مرة في اليوم يضحك الإنسان، وهل يحدث أن تمر أيام لا نضحك فيها، وإذا حدث ذلك فما السبب؟ هل لأن بواعث الضحك انتفت، أم لأننا في مزاج سيئ لا يجعلنا قادرين على الضحك أو راغبين فيه؟
يقود هذا إلى أسئلة أخرى من نوع: هل أن أمراً من الأمور يمكن أن يكون في ظرفٍ ما مُضحكاً، لكنه في ظرف آخر لا يكون كذلك تبعاً للمزاج الذي نحن فيه؟
والأغلب أن لدى كل إنسان أجوبة مختلفة على هذا النوع من الأسئلة، ولكنها تشكل مداخل للاقتراب من عالم الضحك الذي من مظاهره أن لدى الناس أشكالاً أو طرقاً مختلفة للضحك. بعض الضحك أشبه بالقهقهة الطويلة، وبعضه الآخر له صوت مُدوٍ، وبعضه الثالث أشبه بالابتسامة العريضة أو الضحكة المكتومة.
ثم إن القابلية للضحك تتفاوت بين شخص وآخر. بعض الناس دائمو الضحك، وبعضهم الآخر لا يضحكون إلا لماماً. والدراسات لا تجزم بأن الشخص الميال للضحك هو بالضرورة أكثر سعادة من الذين يضحكون بشكل أقل. قد يكون الشخص في داخله أميل إلى الحزن، ولكنه في مسعى ربما يكون غير واع يتغلب على ذلك بالمبالغة في الضحك.
من وجهة نظر علمية صرفة فإن الضحك يظهر لدى الإنسان متأخراً بالقياس إلى البكاء. أول ما يفعله الطفل بعد ولادته هو البكاء ولكنه بعد حين يتدرب على الضحك. ويقال إن ضحك الطفل ليس سوى بكاء معكوس. “الضحك في أصله بكاء” يقول أحد علماء النفس. فحين يرى الطفل شيئاً أو شخصاً غريباً، تثير لديه المفاجأة نوعاً من الفزع يعبر عنه بالبكاء، لكن ما أن يألف المشهد أو يتكيف معه حتى يشعر بحال من الاسترخاء يعبر عنه بالضحك.
يذهب باحث اسمه برغسون للقول، إننا نضحك على أنفسنا في المقام الأول، فلا شيء هزلياً خارج ما هو بشري. إننا لو ضحكنا على حيوان نكون قد استحضرنا في سلوكه الباعث على الضحك سلوكاً للبشر أنفسهم.
وحين نضحك على قبعة غريبة فإننا لا نضحك إلا على الفعل البشري الذي صنعها بهذا الشكل، ونضحك من الشخص الذي يرتديها لأنه برأينا غريب أو باعث على الضحك. ويقترح صاحبنا اقتراحاً طريفاً: «جربوا أن تسدوا آذانكم بوجه صوت الموسيقى في قاعة رقص، سيظهر لكم الراقصون سخفاء في الحال».
يمكن تطبيق هذا الاختبار على أمرٍ آخر يخصنا: جربوا أن تكتموا صوت التلفاز وأنتم تشاهدون حلقة من برامج الحوارات السياسية في بعض فضائياتنا، وركزوا جيداً في تعابير وحركات أيدي المتحاورين والمذيع الذي يتظاهر بتهدئتهم بعد أن يكون قد أشعل العراك بينهم، وساعتها ستدركون مقدار السخف الذي يحيط بنا، معبراً عنه في أداء من اختاروا أن يُصنفوا أنفسهم في خانة النخبة، التي تقدم، ويا للمرارة، نماذج في منتهى البؤس.
قلنا إن الضحك بكاء معكوس. وان الضحك في أصله بكاء. لهذا السبب على ما يبدو قالت العرب: شر البلية ما يضحك. وفي حالة التعبير عن تفاقم حالة ما قالوا: المضحك المبكي. والعرب القدماء كانوا حكماء حين صاغوا هذه الأقوال، كأنهم كانوا يجهزون لأحفادهم اليوم، الذين هم نحن، التعبير الملائم لوصف الواقع الذي سيؤولون إليه. شكرا لأسلافنا فقد وفروا علينا مشقة البحث عن العبارة المناسبة في وصف حالتنا.
31 يوليو 2015