الحلقة الاولى
عندما يستعيد المرء بعض من شريط ذكرياته مع بعض رفاقه يتذكر الحلو منها والمر كلٍ حسب وفائه وذوقه وكذلك ما يتحلى به الرفاق من دماثة خلق وأدب جم خصوصاً في الأيام العصيبة في (أقبية السجون والمعتقلات).
في العام 1974 أبان المجلس الوطني السابق كنت نزيلاً في جزيرة جدا في زنزانة رقم 4 وكان معي بعض الرفاق: عباس عواجي، يوسف عجاجي، والمرحوم أحمد الذوادي، الذين جمعتني معهم الصدفة والسَجان، أي كنت لا أعرفهم تماماً آنذاك مثل عباس عواجي الذي تعرفت عليه عن بعد أيام تأسيس النقابات عام 1974، فهؤلاء المناضلون كانوا سبقوني في ساحات النزال الكفاحي ولكن كما قلت شاءت الظروف وحصل لي شرف التعرف عليهم عن قرب في المعتقل بالذات، ومن حسنات مدير السجن السابق مستر سميث التي يتصف بها أن جعلهم معي في زنزانة واحدة ضمن سياج معتقل السياسيين فكان ذلك السجن بمثابة خلود إلى الراحة والهدوء بعد زنازن القسم الخاص وكانت محطة كبيرة أثرت على حياتي وأعطتني دافعاً قوياً للإمام بعد ما عانيته من سجن إنفرادي في سجن القسم الخاص بالقلعة، فقد كنت في أحدى تلك الزنازن حيث كان بجواري المحامي عبد الوهاب أمين الذي تعرفت عليه أيضاً هناك.
كنا في سجن “جدا” مع الرفاق بعيدين عن جو الكآبة والإزعاج وما يحدثه الشرطة من فتح وإغلاق لقفول أبواب الزنازن ناهيك عن روتين دوام الشرطة الرسمي. فكنا نتسامر ونقرأ ونغني ونتبادل النكات وخصوصاً عندما يأتينا المرحوم الفنان مجيد مرهون من خلف السياج عند حلول الظلام ويهدأ الجميع.
مجيد مرهون عازف الساكسفون، يأتينا من خلف ذلك السياج ويتحادث معنا وفي بعض الأحيان يعزف بعض المقطوعات السريعة، كنا نُمضي الوقت في القراءة والمناقشة ومتابعة أخبار الوطن وننتظر حلول موعد المقابلات مع الأهل والأقارب في لهفة وشغف كبيرين وكل واحد منا يقابل أهله ويحصل على بعض الحاجيات التي قدمها لهم في الرسالة من خلال مكتب السجن، وفي أكثر الحالات تمنع إدارة السجن دخول بعض الحاجيات والمعلبات والقناني وفي بعض الأحيان تسمح أو حسب مزاج إدارة السجن.
ذات يوم من شهر إبريل 1974، قابل عباس عواجي أسرته وسمح له بدخول بعض الحاجيات ومنها (قنينة عصير بيدان) فلما عاد إلى الزنزانة كانت على وجهه ابتسامة عريضة فسأله الأصدقاء عن المقابلة وعن الإجراءات فيها وعن الأغراض التي سمح له بها فقال: لقد سمح لي بقنينة عصير بيدان أو كما يسميها عباس (سويق اللوز) فالكل طار من الفرح واستبشر خيراً وغنى بهذه المناسبة السعيدة، البعض أمر بالاحتفاظ بها ليوم الاحتفال بذكرى تأسيس الجبهة وآخر قال: ذكرى تأسيس الجبهة بعيد وسوف تنتهي صلاحيتها ولكن لنحتفل بها يوم عيد الفطر أما عباس فقال لنجربها الآن وليس غداً، حاول عباس أن يفك غطائها المحكم تماماً فلم يفلح في ذلك فقلت له أعطني سوف أحاول فتحها فقال مازحاً “اتحمل تسقط من يديك وتنكسر فهي صيد ثمين والشيص في الغبة حلو”، وكان متردداً جداً لا يريدني حتى ألمسها وبعد ذلك رضخ للأمر الواقع وسلمني إياها ولكن بيد مرتعشة فحاولت بدوري الإمساك بها وفتحها وفي نفس الوقت أقرأ الملصق عليها وفي هذه الأثناء وبسبب السهو وعدم التركيز سقطت القنينة أرضاً على سطح الغرفة وانشطرت وتناثر زجاجها على ارضية الغرفة فصرخ عباس من قمة رأسه “ما قلت لك ما قلت لك شوف ما عندنا غيرها ومن أين نأتي بغيرها ونحن هنا في جدا؟”، فحاول عباس لملمة العصير المنسكب على الأرض لكن دون جدوى أما أنا فأحسست بالذنب كما لو أنني عملت جريمة نكراء أما هو فلم ينسى هذه الحادثة وأخذ يكررها عليّ “قول لأهلك أن يرسلوا لك قنينة غيرها”، وجعل من هذه مادة يكررها على كل المعتقلين السابقين واللاحقين في جزيرة جدا ومن يومها ابتعدت عن فتح القناني الصعبة لتفادى الحرج والشعور بعدم الارتياح.
في العام 1975 وبينما كنا نعد التحضيرات للاحتفال بالأول من مايو عيد العمال وبشكل سري جداً شنت السلطات حملة اعتقالات واسعة شملت صفوف جبهة التحرير الوطني البحرانية وكنت أنا أحد الذين شملهم الاعتقال كوني أنا ونصر معيوف من ممثلي العمال والموظفين في وزارة الصحة التي قادت أول إضراب من نوعه في القطاع العام سنة 1972.
كان الجو حاراً وكان الاعتقال وقت الظهيرة الساعة الواحدة والنصف فلما ألقى علي القبض من قبل رجال المخابرات أودعت أحدى زنازن القسم الخاص بالقلعة ففتح الشرطي باب الزنزانة بسرعة فائقة ودفعني بقوة إلى الداخل وأقفل الباب وإذا بشخص ممدد وسط الزنزانة بملابس داخلية فقط واستعمل ملابسه الخارجية كوسادة فلما غادر الشرطي الزنزانة التفت إلىَ ذلك الشخص وسألني من أنت؟ فأوجست خيفةً وترددت في الجواب وشككت في الأمر وقلت في نفسي أتكون الزنزانة مأهولة برجل أمن أو ملغمة؟ ويمكن ان يأكل بعقلي حلاوة حسب المثل المصري! وإذا بذلك الشخص يكشف عن اسمه ويبتسم ويطمئنني بعد أن عرف اسمي ويقول أنا فلان حياك استرح، كلنا سوف نخرج في يوم ما ولن يبقى هنا إلا السجان وكأنه نزيل دائم يستضيفني في منزله.
بهذه المناسبة تعرفت عليه عن قرب لأول مرة وحيث كنت أتابع أخبار الحركة العمالية في البحرين وفي أيام الإعداد للإضراب العام الذي بدأناه آنذاك كان اسمه يتردد على كل لسان كنت اسمع عن شجاعته وإقدامه وإخلاصه للعمل الوطني وبفضل وجودي معه في السجن أكثر من مرة فكانت شخصيته واضحة أمامي ودائماً مستعد للبذل والتضحية والعطاء.
توثقت العلاقة بيني وبينه أكثر في الثمانينات والتسعينات وخصوصاً أيام حضور المجالس التي اقترحناها لتمرير مناشير وبيانات جبهة التحرير والحركة الوطنية المطالبة بإعادة الحياة النيابية وإلغاء قانون تدابير أمن الدولة المقبور فكان دائماً شعلة وحماسة يلهب الجلسة ولا يفوته أي خبر أو معلومة ولا يتردد في أي عمل يسند إليه للدفاع عن العاملين والمطالبة بحقوق المستضعفين.
وفي العام 1992 ومن داخل مجالسنا المعتادة مجلس علي ربيعة ومجلس محمد جابر ومجلس سعيد العسبول ومجلس أحمد منصور ومجلس عبدالله العباسي ومجلس حسن بديوي عملنا على تدشين العريضة النخبوية ثم العريضة الشعبية فكان له دور بارز لم يتراجع ولم يَخف على قوت يومه، وكان حينها يعمل في بتلكو فعمل بجد وحماس في جمع التواقيع من العمال وعموم المواطنين رغم حالته الصحية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، نعم ذاك هو العامل البروليتاري الكادح جليل عمران الحوري، حقيقةً سيبقى جليلاً مخلداً في ذاكرة وقلوب رفاقه ومحبيه وأصدقائه لأنه إنسان وفي وصادق مع مبادئه وناضل حتى الرمق الأخير ومات واقفاً، وقد صدق فيه قول الشاعر الذي يقول: أو موتته بين الصفوف أحبها، هي دين معشري الذين تقدموا.
يتبــــــع
الكاتب: أحمد منصور – من نشرة التقدمي
العدد 92
يونيو 2015