المنشور

تونس ليست استثناء


من بين كل «التجارب المخبرية» لعاصفة «الربيع العربي» الشبابية الطائشة، حظيت تونس، البلد الذي أطلق شرارة هذه العاصفة الهوجاء، باهتمام وثناء وإشادة من قبل كل المحللين والمراقبين السياسيين في العالم العربي الذين قيّض لي متابعة مداخلاتهم وكتاباتهم ومواقفهم عبر وسائط الإعلام المختلفة، حول تجربة تونس «الرائدة» في «العبور الآمن» من بين فكي كماشة الفوضى المحتمة التي كانت بانتظارها، أسوة بكل التجارب «الشعبية» التي ركبت موجتها وحاولت تقليدها في الثورة على القديم، من دون بوصلة، ولا عنوان، ولا تذكرة عودة «لمجنونها»، بعدما اكتشفت ما هو أجنّ منه.
من الواضح أن تمكّن المكونات السياسية التونسية من إتمام المرحلة الانتقالية بإعادة البلاد من مرحلة ما بعد الثورة المضطربة إلى مرحلة الدولة، قد أغشى عيون أولئك المحللين والمراقبين عما هو «مستقر» خلف الأجندات المعلنة لبعض تلك المكونات التي لولا أن خذلتها الانعطافة الحادة والمفاجئة في مسار «الربيع العربي» في اللحظة الأخيرة، لكان قمرها قد اكتمل بدراً وبانت نصاعته، كما بانت صور تجاربه النظيرة.

قليلون هم الذين فطنوا إلى الصورة الخادعة لسطح أحداث توالي استكمال إجراءات المرحلة الانتقالية، من وضع دستور جديد، وانتخاب برلمان جديدن وانتخاب رئيس جديد. فقد كان مقدراً لتونس أن تتجه لملاقاة المصير نفسه الذي لقيته التجارب التي قلّدتها، لولا «الصاعقة» الماحقة التي حلت فجأة على رؤوس فروع تنظيم الإخوان المسلمين، وأبعدتهم عن المشهد السياسي الذي تصدروه فترة وجيزة في العديد من البلدان، لاسيما مصر، وإدراك فرع التنظيم في تونس «حزب النهضة»، أن مصيره لن يكون أفضل حال من مصير «أخيه» فرع التنظيم في مصر، ما لم يحنِ رأسه للعاصفة ويساير اتجاهها.

فقد تيقّن إخوان تونس من هذا الانعطاف النوعي في الأحداث، من وحي ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات التشريعية التي أجريت في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2014، والتي فاز فيها حزب نداء تونس الليبرالي برئاسة الباجي قائد السبسي ب 85 مقعداً، فيما حل حزب الإخوان المسلمين «النهضة» ثانياً ب69 مقعداً، وحصل مناصروه على خمسة مقاعد فقط، وهو الذي كان هيمن على الحياة السياسية في تونس طوال فترة الاضطراب والفوضى التي أعقبت «ثورة الياسمين»، باكورة «الربيع العربي» مطلع عام 2011. لتُستكمل هذه الانتكاسة الكبرى لإخوان تونس بهزيمتهم بعد شهر من ذلك في الانتخابات الرئاسية التي جرت في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2014 بخسارة حليفهم الرئيس الانتقالي السابق المنصف المرزوقي، في جولة الإعادة أمام مرشح حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي، بحصول الأخير على نسبة 55.68% من الأصوات، مقابل 44.32% للأول.

فلولا التطورات الدراماتيكية العاصفة التي شهدتها مصر المجاورة لتونس والتي مكنت فترة الاضطراب والفوضى التي عصفت بمصر في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 التي أطاحت نظام حسني مبارك، مكَّنت إخوان مصر من الوصول للسلطة في انتخابات غلبت عليها الشعبوية وغاب عنها الوعي، والتي مكثوا فيها عاماً واحداً كان كافياً للناس لأن يكتشفوا أنهم «اندحك عليهم»، فهبوا وتمردوا على حكم الإخوان، الذي وصل إلى ذروته في التظاهرة المليونية في 30 يونيو 2013 والتي فتحت الطريق للإطاحة بحكم الإخوان في مصر لولا هذه الانعطافة الحادة، لكان إخوان تونس استمروا في تمسكهم بمواقع السلطة التي احتلوها في معمعان «فوضى حواس» ما بعد الثورة. فعلينا أن نتذكر أنهم ظلوا يناورون ويماطلون في مفاوضات ممضّة مع قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل لتشكيل حكومة انتقالية بعيداً عن هيمنة حزب النهضة. كما سارعوا لاستغلال هذه الهيمنة بإنشاء ميليشياتهم للدفاع عن مكتسباتهم التي غنموها في معمعان الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي أعقبت سقوط نظام بن علي، فكان أن وُجهت إلى هذه الميليشيات اتهامات بالمسؤولية والتواطؤ مع التشكيلات السلفية في عمليات الاغتيال التي طالت أبرز قيادات المعارضة التونسية الليبرالية، شكري بالعيد ومحمد البراهمي، ما حدا برئيس الاتحاد العام التونسي للشغل حسين العباسي للإعلان في ديسمبر/كانون الأول من عام 2012 بأن حزب النهضة (بزعامة راشد الغنوشي) وحليفه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية (بزعامة المنصف المرزوقي)، اختارا المواجهة، وأن الاتحاد على قدر هذا التحدي، فقد اعتاد مناضلوه السجون في عهدي الحبيب بورقيبة وبن علي، ولن يخافوا من حكومة الالتفاف على الثورة. ورأى العباسي أنه لم تعد هناك أي جدوى للحوار بعد الهجوم المنظم الذي نفذته ميليشيات حركة النهضة المسماة «روابط حماية الثورة» ضد الاتحاد ومناضليه ومقره المركزي، والتي دانتها الأحزاب والمكونات التونسية، ودعت إلى حل تلك الميليشيات، وحمّلت حركة النهضة مسؤولية جر البلاد إلى العنف. فكان رد الغنوشي آنذاك متحدياً، إذ قال إن روابط حماية الثورة هي «ضمير الثورة». وبدت تونس حينها، في الذكرى الثانية لثورة ياسمينها بلداً يتناهبه الخوف من اندلاع الحريق الكبير، خصوصاً بعد أن اكتشفت قوات الأمن وقتها شبكة لتهريب الأسلحة المتطورة بين تونس والجزائر وليبيا في مدينة مدني على الحدود الليبية، وهي أسلحة «ذكية» تصنف على أنها من النوع الخطر جداً.

في تونس، كما في مصر، حيث كانت الفترة التي سيطر فيها الإخوان على السلطة في مصر، والتي لم تتجاوز العام، بمثابة شهر عسل للتنظيمات الإرهابية سرحت ومرحت خلاله في طول البلاد وعرضها، وأنشأت ورسّخت قواعد عملها من «داخل الدار». بل إن في تونس كانت أشهر العسل أطول و«أهنأ»، تم خلالها تمكين الجماعات السلفية الجهادية من السيطرة على الجوامع والمساجد في المدن والبلدات والجامعات، وفُتحت لهم الأبواب لكي يعملوا بهمة ونشاط لتجنيد المئات من التونسيين وإرسالهم للقتال في سوريا، الأمر الذي حظي بموقف مساند واضح من قبل حكومة حزب النهضة وزعيمه راشد الغنوشي. فكان أن تصدرت تونس قائمة الدول الأكثر إرسالاً «للجهاديين» إلى سوريا وبقية مناطق سيطرة تنظيمي «داعش» والنصرة الإرهابيين.

خالص القول، أن النخب السياسية في تونس ليست أكثر رقياً وأكثر وعياً في الثقافة السياسية العامة، وأكثر فهماً وتقبلاً للآخر ولمبدأ التداولية، من أقرانها في بقية الأنحاء العربية، وإنما الظروف هي التي قيّضت لها واضطّرتها لتكملة مشوار المرحلة الانتقالية. وها هي ذي الظروف ذاتها تعيدها إلى مستقرها الأساس، حيث ينتظر حزب النهضة لحظة نضوج التفاحة لكي يقطفها ويستعيد «العرش» ثانية، بعد حسم مسألة الانحياز لخيار الإرهاب، في تونس كما في مصر، جسراً لعودة الإخوان إلى الحكم في البلدين.
 
24/7/2015