في عموده اليومي تحت عنوان «من النفط إلى الإرهاب» (6 يوليو الجاري) يوضح الزميل رئيس التحرير منصور الجمري كيف تحوّل خليجنا العربي من قوة لها الصوت الأكبر في منظمة الأوبك، وكيف كان مخزوننا النفطي الذي يصدر يومياً 30 في المئة من إجمالي النفط المنقول بحراً ويتحكم بعجلة الإنتاج الصناعي العالمي، ثم أضحى العالم اليوم ينظر إلى منطقتنا كمصدّرة للإرهاب.
أكثر من ذلك فقد كان النفط أيضاً من أهم الأسلحة الاقتصادية التي مكنتنا من تحقيق الانتصار المحدود على العدو الإسرائيلي في حرب أكتوبر 1973، بفضل حظر النفط عن الدول الغربية الداعمة لـ «إسرائيل» وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ومن المفارقات التاريخية المريرة أن مصر التي عُرفت بريادتها للمشروع القومي الذي انتكس بهزيمة 67، وبأنها كانت مركز إشعاع لنشر الأفكار الوطنية والتحررية والوحدوية في مختلف أرجاء العالم العربي، باتت هي الأخرى تعاني اليوم مما يُصدر إليها من أفكار ظلامية وإرهابية وخصوصاً في شبه جزيرة سيناء.
غداة حرب أكتوبر التي عايشت أيامها المجيدة أثناء دراستي الجامعية في القاهرة، كانت الحركة الطلابية المصرية وقتذاك في أوج قوتها، وكانت تظاهراتها من الأسباب الرئيسية الضاغطة على النظام للإسراع في شن حرب تحرير سيناء، لكن الحركة الطلابية والقوى الوطنية سرعان ما انتابها الشعور بالخذلان لانتهاء الحرب دون تحرير سيناء بالكامل من ربقة الاحتلال الإسرائيلي، على الرغم مما حقّقه الجيش المصري من بطولات عظيمة بمباغتته العدو بعبور قناة السويس في عز ظهيرة يوم السادس من أكتوبر، وتحطيم خط بارليف الذي نسجت الدعاية الإسرائيلية حوله أسطورة باستحالة اختراقه عسكرياً، وكذلك تحرير شريط من الأراضي المحاذية للضفة الشرقية من القناة.
وكان هذا الانتصار المحدود مخططاً له مسبقاً من قِبل الرئيس الراحل أنور السادات، فيما تكشّف لاحقاً بأنه لم يردها «حرب تحرير كاملة» بل «حرب تحريك» تمهّد للتسوية والصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، برعاية الولايات المتحدة التي اعتبرها تملك 99 في المئة من أوراق اللعبة. وحينها أتذكر عبّر الفنان الوطني الراحل عدلي فخري عن جرح سيناء الذي لم يندمل كاملاً في أغنيته: «أصحي يا بلدي أصحي.. تذّكري وأوعي تنسي .. جرحك يا مصر وجرحي.. سينا سينا شراع السفينة». وهاقد مضى نحو أربعة عقود ونيف على حرب أكتوبر ويكاد جرح سيناء هو هو لم يندمل، ليس من الاحتلال الإسرائيلي فحسب والذي انسحب منها بشروط مجحفة لا تحقق استعادة مصر كامل سيادتها عليها تطبيقاً لبنود معاهدة «كامب ديفيد» المُذلة، بل ولما باتت تشكله اليوم الجماعات الإرهابية وعلى رأسها «داعش» ممثلةً فيما يُسمى بـ «ولاية سيناء» من خطر داهم أشد خطورةً من الاحتلال الإسرائيلي على الأمن القومي المصري الداخلي والخارجي، باستنزافها بعملياتها الإرهابية ضد القوات المسلحة المصرية في هذه المنطقة الحسّاسة من حدودها الشرقية.
وفي مقال للكاتب المصري كرم سعيد («الحياة» 8 يوليو الجاري) تحليل مسهب لمكامن الثغرات الأمنية والعسكرية في مواجهة الجماعات الإرهابية في سيناء، والأسباب التي توفّر بيئات حاضنة لها في المجتمعات السيناوية.
وفي الوقت الذي لعبت الأسلحة السوفياتية الدفاعية والهجومية والخبراء والمستشارون السوفيات الذين درّبوا الجنود المصريين عليها، دوراً في تعويض مصر عن هزيمتها العسكرية في يونيو 1967خلال فترة قياسية حتى وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر العام 1970، وبات الجيش المصري شبه جاهز لتحرير سيناء، فإن خلفه السادات الذي ارتد عن مبادئ ثورة يوليو، قدّم عربون مراهنته على أميركا التي تقدّم كل أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والمالي والعسكري للعدو الإسرائيلي لإنجاز تسوية معها، قبل قراره بخوض حرب أكتوبر، ومن أشكال ذلك العربون طرد الخبراء العسكريين السوفيات المفاجئ في العام 1972، والذين كانوا حينها يدرّبون القوات المسلحة المصرية على الأسلحة الجديدة التي عوّض الاتحاد السوفياتي مصر بها بعد هزيمتها العسكرية في يونيو 1967.
وقد كان سفير مصر في موسكو مراد غالب شاهد عيان على الطعنة التي شعر بها السوفيات لقرار طرد مستشاريهم في الاجتماع الذي حضره في موسكو مع وفد مصري برئاسة رئيس الوزراء عزيز صدقي، الذي أستقبله الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف والدموع في عينيه متسائلاً بمرارة شديدة: «ماذا فعلنا بكم حتى سببتم لنا كل هذا؟ نحن حاربنا معكم وامتزجت دماء جنودنا بدماء جنودكم، وبنينا لكم السد العالي لتصبحوا دولة صناعية وكنا نخفي جثامين شهدائنا في حرب الاستنزاف التي خاضها عبد الناصر ضد «إسرائيل» بُعيد الهزيمة ونسلمها ليلاً لذويهم بعيداً عن أعين شعبنا السوفياتي».
والحال إن بريجنيف نفسه الذي حل محل سلفه خروشوف، والذي كان من أسباب إزاحته عن القيادة تهوره بنصب صواريخ نووية في كوبا العام 1962 على مرمى حجر من سواحل الولايات المتحدة الشرقية، وكادت أزمة الصواريخ أن تؤدي إلى حرب نووية، ارتكب بدوره واحداً من أكبر أخطاء الإتحاد السوفياتي الاستراتيجية، بعدم وقوفه بكل قوة وحزم مع مصر للحيلولة دون إقدام «إسرائيل» بدعم أميركي على شن حرب عليها في يونيو 1967، باعتبارها أهم حليف للسوفيات في منطقة الشرق الأوسط، في حين ورّط قوات بلاده للتدخل في أفغانستان العام 1979 لنصرة نظام يساري لا يتمتع بالشعبية ومحكوم عليه بالزوال.
وكان هذا التورط من أسباب استنزاف الاتحاد السوفياتي عسكرياً واقتصادياً، ما أفضى، إلى جانب عوامل أخرى، لانهياره لاحقاً، بينما كان الأولى ببريجنيف التهديد بإنزال قواته في مصر في يونيو 1967 لحماية نظام حليفه القوي جمال عبد الناصر، الذي كان يحظى بشعبية جارفة ليس وسط شعبه فقط بل ولدى الغالبية العظمى من شعوب البلدان العربية. وبحيث تنتهي أزمة يونيو بتسوية تكف يد «إسرائيل» عن عدوانها على مصر. وهو العدوان الذي كان من أسباب تقلص نفوذ الاتحاد السوفياتي نفسه في الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد رحيل عبد الناصر.
14 يوليو 2015م صحيفة الوسط