من جديد تحبس بلدان منطقة اليورو (18 دولة من إجمالي بلدان الاتحاد الأوروبي ال 28) أنفاسها، هذه المرة بسبب عودة موضوع الديون اليونانية إلى الواجهة منذ وصول حزب سيريزا اليساري المعارض لإجراءات التقشف وبرنامج الإنقاذ إلى السلطة في اليونان في الانتخابات التشريعية التي جرت في يناير/ كانون الثاني الماضي، وتكليف زعيم الحزب ألكسيس تسيبراس بتشكيل الحكومة برئاسته وتبني برنامج الحزب الانتخابي الذي يتضمن إنهاء العمل بسياسة وإجراءات التقشف والتفاوض مجددا حول الديون الضخمة التي ترزح تحتها البلاد والتي وصلت إلى 175 في المئة من إجمالي ناتجها المحلي.
المثير أنه على مدى الشهور الستة الأخيرة ظلت مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل والبنك المركزي الأوروبي ومعهما صندوق النقد الدولي، يمارسان ضغوطاً هائلة على اليونان قادتها وتقودها ألمانيا ومستشارتها أنجيلا ميركل، من أجل إخضاعها لنفس برنامج التقشف الذي أسقط الحكومة اليونانية السابقة في انتخابات شهر يناير الماضي. وهو برنامج قاس يؤمن للدائنين من حكومات أوروبية ومصارف ومعهم صندوق النقد الدولي استرداد أموالهم التي أقرضوها للحكومات اليونانية السابقة، حتى وإن أدى ذلك إلى إهدار الحد الأدنى من الحياة الكريمة لمعظم اليونانيين، وصولا إلى رفض هذه الترويكا طلب اليونان تمديد اتفاقية الإقراض الجارية المنتهية في 30 يونيو/ حزيران الماضي ما لم توافق على فرض ضرائب على العاملين والمتقاعدين وأصحاب الأعمال الصغيرة اليونانيين، وبيع المزيد من الشركات والمؤسسات والأصول الحكومية، لقاء هذا التمديد، فيما أرادت حكومة سيريزا تحميل هذه الضرائب على الشركات وعلى الأثرياء اليونانيين. اليونان تريد حلاً يسمح بنمو اقتصادها خارج قيد الديون الذي تكبله سياسة التقشف المفروضة عليها من الترويكا، بينما أرادت الأخيرة من اليونان مواصلة خفض الإنفاق والمزيد من إجراءات التقشف الركودي.
أكثر من ذلك قدمت اليونان مقترحا متكاملا من 11 صفحة تضمن تنازلات كانت تعتبرها خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، ومع ذلك تجاوزته. تضمن المقترح رفعاً كبيراً للضريبة على رواتب المتقاعدين، ورفع ضريبة القيمة المضافة على المبيعات إلى 23٪ حسبما طلبت الترويكا، مع خفضها إلى 13٪ و6٪ على التوالي على المواد الغذائية الرئيسية والمطاعم والمستلزمات الطبية والأساسيات الحياتية الأخرى، مع أن هذا يؤثر في الدخل الاسمي للعاملين والمتقاعدين أكثر من تأثيره في الأثرياء، ورفع سن التقاعد العادي والمبكر، مع ان أكثر من نصف المتقاعدين اليونانيين يعيشون بمداخيل تقل عن دخل خط الفقر، ورفع الاقتطاعات من المتقاعدين للتغطية الصحية، واقتراح مساهمة قطاع الأعمال اليوناني في هذه التغطية أسوة بما هو معمول به في الولايات المتحدة، على أن تدر ضريبة القيمة المضافة هذه 1.5 مليار دولار على الخزينة. كما تضمن المقترح اليوناني رفعاً للضريبة المفروضة على الشركات والأثرياء الذين ظلوا يتجنبون الضرائب لأكثر من 6 سنوات، من 26٪ إلى 29٪، وفرض ضريبة على فائض أرباح الشركات التي تزيد على 550 مليون دولار سنويا بواقع 12٪، وضريبة أعلى على اليخوت الفارهة، وهو ما سيضيف 1.5 مليار دولار أخرى للخزينة، اضافة إلى 200 مليون دولار من خفض النفقات العسكرية.
جدير ذكره ان هذه الإجراءات التقشفية القاسية التي تطلبها الترويكا من اليونان تشكل حصيلتها 2.5٪ من النمو المستقبلي اليوناني الذي يجب أن يخصص لدفع القروض. وهذا يعني أن على الحكومة أن تحقق نمواً يزيد على هذه النسبة للخروج من الكساد، مع أن أفضل أداء لاقتصادات منطقة اليورو، وهو هنا الاقتصاد الألماني لا يصل نموه اليوم حتى إلى 2٪. ومع ذلك رفضت الترويكا العرض اليوناني وطالبت بمزيد من الاقتطاعات في الإنفاق والإجراءات التقشفية. بل ان رئيسة صندوق النقد الدولي كريستين لاجارد رفضت توجه الحكومة اليونانية لرفع الضرائب على الشركات والأثرياء، مشددة على ضرورة فرضها على العاملين والمتقاعدين وذلك في رهان واضح من جانب الترويكا على تضييق الخناق الاقتصادي على الناس وتأليبهم بالتالي على الحكومة اليسارية بهدف إطاحتها. وتصدرت ألمانيا واجهة المواقف المتشددة ضد اليونان، وخاصة وزير ماليتها وولفغانغ شوبل الذي يطالب صراحة بإخراج اليونان من منطقة اليورو، والذهاب بعيدا بإعلان إفلاس اليونان. الا أن هذا الخيار أثار الخوف لدى بقية زملائه من وزراء مالية بلدان منطقة اليورو من انعكاساته على أسواق المال والنظام المصرفي الأوروبي، ويخشون أيضا من التبعات السياسية لخروج اليونان من منطقة اليورو، فإذا ما خرجت ونجحت في تخطي أزمتها المالية فإن ذلك سيشجع دولاً أخرى على الحذو حذوها.
وكما هو واضح، فإن الترويكا غير مهتمة في الواقع بإعادة هيكلة ديون اليونان المسؤولة عن مراكمتها الأوليغارشيا اليونانية التي ظلت تحظى بسخاء قروض المصارف الأوروبية ودعم الحكومات الأوروبية للحكومات اليونانية، اليمينية والاشتراكية (حزب الديمقراطية الجديدة اليميني والحزب الاشتراكي لعموم اليونان «باسوك»)، بقدر اهتمامها بإجبار العاملين والمتقاعدين وأصحاب الأعمال الصغيرة اليونانيين على استمرار دفعهم لتغطية أقساط خدمة الدين اليوناني (الأقساد + الفوائد). الترويكا لا تريد رفعا للضرائب، انها تريد اقتطاعات من الأجور ومخصصات شبكة الأمان الاجتماعي ومن تكاليف الانتاج الأخرى. وهو ما يتوافق مع الاستراتيجية الأوروبية الأوسع والمتمثلة في «إعادة هيكلة سوق العمل» بهدف تقليص تكلفة الإنتاج وجعل اليورو بالتالي أكثر تنافسية لجهة التصدير كشرط للتعافي الأوروبي الأشمل. وقد طبقت اسبانيا بالفعل هذه الإصلاحات في سوق العمل بهدف الحد من الإضرابات، كما تتجه كل من إيطاليا وفرنسا لعمل الشيء نفسه ضمن خطة القيادات الحكومية والمالية لمنطقة اليورو لإجبار العاملين والمتقاعدين على دفع ثمن التعافي الاقتصادي.
في اجتماع 25 يونيو الذي جمع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند برئيس الحكومة اليونانية تسيبراس الذي استمر 45 دقيقة، أُعطي الأخير ما سُمي «بالعرض السخي الأخير» المتمثل في مواصلة اقراض اليونان حتى نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل بشرط قبول اليونان مزيدا من طلبات التقشف للترويكا، بحيث تحصل اليونان على 17.2 مليار دولار على 4 دفعات تشمل 1.8 مليار دولار لتسديد قسط دين صندوق النقد الدولي الذي كان مستحقا في 30 يونيو الماضي، كما شمل العرض مد أجل استحقاق السندات اليونانية لبضع سنوات وخفض سعر الفائدة عليها، وهو ما لن يحتاج لموافقة البرلمان الألماني والبرلمانات الأخرى لأنه لن يضيف مساهمة حكومية جديدة في اجمالي الديون اليونانية. وما بين «جزرة» ميركل و«عصا» وزير ماليتها «شوبل»، لم تجد الحكومة اليونانية من خيار سوى اللجوء للشعب لاستفتائه، ذلك أن إنذار (Ultimatum) ميركل النهائي لا يعني سوى الحصول على أموال من الترويكا لإعادتها اليها ثانية، والذي لن يغير في الأمر شيئا سوى كسب وقت إضافي، فيأتي نوفمبر وتتجدد المساومة مع الترويكا.
هي سياسة أوروبية غير ديمقراطية تلك المتبعة ضد اليونان، ولكنها تعكس ثقافتين مختلفتين في واقع الحال، ثقافة ألمانية بالدرجة الأساس، تريد القول للأوروبيين بأن عليهم أن يقروا بأن ميزاتهم التنافسية قد اضمحلت نتيجة لإفراطهم في التمتع بمزايا الرأسمالية الاجتماعية، وعليهم أن يعودوا للتضحية من جديد ببعض مستويات معيشتهم من أجل استعادة بعض هذه التنافسية، وثقافة يونانية وإيطالية وإسبانية وبرتغالية وفرنسية تحاول الدفاع المستميت عن مكاسب عموم العمال.
12/07/2015