مما لا شك فيه أن تشديد التدابير الأمنية التي تتخذها السلطات الأمنية في بعض دول مجلس التعاون لحماية المساجد والمصلين المستهدفين من قِبل تنظيم «داعش» بسبب انتمائهم المذهبي، لهو أمرٌ محمودٌ ومطلوبٌ، لكن ما هو أهم في رأينا تحصين عقول وأفئدة آلاف الفتيان والشباب من خطر تعرضها لاختراق فيروسات الفكر الداعشي تطبيقاً لمقولة «درهم وقاية خير من قنطار علاج». وهذا لن يتأتى إلا من خلال تفكيك الخطاب الداعشي المسطّح دينياً وفكرياً، وتبيين مدى تهافته وضحالة فهمه بصحيح الإسلام. وهنا يمكننا القول ثمة مهمتان آنيتان ملحتان تنتصبان أمام دول المجلس.
المهمة الأولى هي إعداد العدة لخوض سجالات فكرية – دينية مستنيرة معمقة مع الأفكار والشعارات الظلامية الزائفة التي يدعي «داعش» بأنها من صميم الإسلام، وهي كما نعلم، لا تمت للإسلام السمح ولا لمذهب أهل السنة والجماعة بصلة.
المهمة الثانية هي العمل على احتواء وإنقاذ أكبر عدد ممكن ممن وقعوا في أسر خطاب الفكر الداعشي، ويشكّلون مشاريع جاهزة لعمليات انتحارية إجرامية قادمة، وهذا لن يتم إلا بتعاون وثيق مع الجهات الأمنية التي تتعقّبهم حقاً ولها دراية بتحركاتهم.
إن الدعاة والمراجع الدينية الثقاة المعروفين لدى العامة بتجردهم ونزاهتهم وصدق إيمانهم، والذين لم يُعرف عنهم توظيف خطاباتهم الدينية لغايات سياسية دنيوية نفعية وضيعة، هم المؤهلون لتأدية هذه المهمة الوطنية الدينية النبيلة، وهم الأقدر على تفنيد أفكار وشعارات «داعش» المنحرفة الفاسدة، وإثبات عدم صلتها بالإسلام الحنيف ومذهب أهل السنة والجماعة السمح، على عكس من دأبوا على توظيف خطبهم لتبرير السياسات الرسمية والدفاع عن كل أشكال الفساد والاستبداد في الدولة الخليجية وتزييف وعي الجماهير عبر إثارة مشاعرها الدينية المذهبية كوسيلة لمناوأة الإصلاحات الحقيقية وزجها في الصراعات الطائفية التي لا تخدم مصالحها المشتركة مع شركائهم في الوطن الواحد. فهؤلاء هم من يستغل منظّرو وأمراء «داعش» خطاياهم وممارساتهم النفاقية لجذب الفتيان وصغار الشباب المحبط منهم ومن الأنظمة معاً وإيقاعهم في شراك خطاب تنظيمهم الإرهابي.
إن إبراز الخطاب الديني التوحيدي ذي القواسم المشتركة هو الأكثر تأهيلاً لتطهير بيئاتنا الاجتماعية الخليجية من وباء خطابات الكراهية التكفيرية التفتيتية، وتسييد خطاب المحبة والوحدة الإسلامية والوطنية كخطاب جامع بين مكونات الشعب كافة. وفي تراث «التقريب» منجزات لجهود الرواد التوحيديين من كل المذاهب الإسلامية على مدى عقود خلت. وإذا كانت المنابر الدينية في المساجد والجوامع والقنوات الفضائية الدينية المتخصصة تلعب دوراً مهماً في إبراز هذا التراث وتسليط الضوء عليه فإن القنوات الرسمية تضطلع هي الأخرى بدور أكبر لتحقيق الغاية ذاتها، ناهيك عن تقديم البرامج الحوارية والدرامية الهادفة، كالمسلسلات والأفلام التي تسهم في إعلاء رسالة التوحيد. وهذه كلها للأسف شبه غائبة خلال شهر رمضان الجاري، إذا ما استثنينا بعض حلقات المسلسل السعودي «سلفي»، التي رغم قيمتها الفنية فإنه كان بإمكان المخرج والسيناريست أن يرتقيا بها إلى مستوى أفضل من مجرد الكوميديا السوداء على ممارسات «الدولة الإسلاموية الداعشية»، ولو من خلال جعل تلك الحلقات يدخل أبطالها في حوارات دينية افتراضية معمقة مع أمراء ومقاتلي «داعش» تقوّض دعائم خطاب الكراهية العنصري الديني وتطبيقاته الإجرامية، وتبعث الريبة في نفوس المضللين منهم في قيادتهم والتمرد عليها.
وعلى الرغم من أن أعداداً غير قليلة من «الدواعش» يقعون في الأسر أو في قبضة السلطات الأمنية، فإننا لم نشاهد حتى الآن أي نماذج منهم جرى استحضارها على القنوات الفضائية لمحاورتها حول الأسباب والظروف التي دفعتهم للارتماء في حضن «داعش» والتسليم بكل ما يدعيه من مبادئ وشعارات إسلامية مزعومة. كما تنعدم الدراسات التي تتناول الظروف والخلفيات الأسرية والاجتماعية التي جاء منها أولئك المغرّر بهم، والتي استغلها «داعش» لتفخيخ عقولهم بالأفكار الإرهابية الشريرة.
إن دول مجلس التعاون باتت اليوم بحاجةٍ ماسةٍ لدراسات علمية تحليلية رصينة عاجلة، تتناول أبرز مراجع الخطاب «الداعشي» التي يستند عليها لإباحة وتبرير جرائمه باسم الإسلام، لبيان فساد المرتكزات الفقهية التي يستند عليها. يشير الكاتب السعودي حسن بن سالم إلى واحد من أخطر هذه المراجع ألا وهو «مسائل في فقه الجهاد»، لأبي عبد الله المهاجر الذي أكّد فيه بلا مواربة، أن القتل بقطع رؤوس الكفار وحزّها، سواءً كانوا أحياء أم أمواتاً أمر مقصود، بل محبوبٌ لله ورسوله على رغم أنوف الكارهين («الحياة»، 30 يونيو/ حزيران 2015).
ولا شك أن القطاع التربوي التعليمي يتحمل هو الآخر نصيباً فائق الأهمية لتطهير أجهزته الإدارية ممن مهّدوا التربة لتفشي الوباء «الداعشي»، فقد بات من المسلّم به لدى الجميع أن المناهج الدينية هي بحاجةٍ عاجلةٍ اليوم أكثر من أي وقت مضى للتنقيح من كل شوائب الإساءات لمذهب ينتمي إليه مكوّن رئيسي من مكوّنات النسيج الوطني الاجتماعي باعتبارها تشيع مناخ البغضاء والكراهية والتفتيت بين أبناء الشعب الواحد. ولعل الإحساس بهذه الحاجة أضحت اليوم موضع توافق أعداد متزايدة من الأكاديميين والمختصين التربويين على اختلاف فئاتهم.
07 يوليو 2015م