هناك كتاب أمريكي شهير عن التجربة اليابانية وضعته الباحثة الانثروبولوجية مارجريت ميد، اعتبر نموذجاً لما يعرف بالدراسات عن بعد، لأن المؤلفة لم تزر اليابان قط، ولكنها امتلكت الجرأة لتأليف كتاب عن تجربة لم تعايشها، مكتفية بقراءة المصادر المتعلقة بها، وأجرت مقابلات موسعة مع الكثير من الأمريكيين المتحدرين من أصول يابانية. وقامت، إلى ذلك، بتحليل الكتب المدرسية اليابانية، وهذا شغف أمريكي تقليدي، فعند الاهتمام بدراسة تفوق مجتمع من المجتمعات يذهب الباحثون وصّناع القرار إلى دراسة المنظومة التعليمية فيه، وعياً منهم بأن سر النهضة يكمن في التعليم.
لقد فعل الأمريكان ذلك أيضاً عندما نجح الاتحاد السوفييتي في إرسال غاغارين إلى الفضاء ليدور حول الأرض، ما شكل خبراً صاعقاً، في حينه، للولايات المتحدة، فعكفت على دراسة النظام التعليمي السوفييتي، لرؤية أوجه القوة فيه، وما هي إلا سنوات حتى تمكن الأمريكان من بلوغ ما بلغه السوفييت في علوم الفضاء، لا بل وتجاوزه.
ولأننا بدأنا الحديث عن اليابان، علينا التذكير بأن مارجريت ميد لم تكن أول من درس التجربة اليابانية، وإنما سبقها فريق جرى تكليفه رسمياً بدراسة تجربة التعليم الياباني المشهود له بالنجاح، فوجد أعضاء الفريق أنه ليس كل التعليم في اليابان مأخوذاً من المجتمع الياباني، فقد استفاد اليابانيون من الفكر التربوي في بلاد أخرى، وبحثوا عن أفكار من الخارج لتساعد على حل المشكلات التربوية، وكانوا الأقل تعصباً عند أخذ وتحوير وأقلمة ما رأوه مناسباً أو ذا فائدة.
ولكن الدراسة نفسها تؤكد أن سجل التفوق التربوي في هذا البلد يرجع إلى أكثر من مئة سنة، بل إن بعض النواحي التربوية المهمة في اليابان مستوحاة من تراث فكري ترجع أصوله إلى ما قبل التاريخ الياباني الحديث.
على أهمية دراسة الأنثربولوجية الأمريكية المشار إليها، أُخذ عليها أنها دراسة وضعت عن بعد، وأنه لا يمكن الإحاطة بالوجوه المختلفة لتجربة من التجارب، من دون أن يقوم الباحث، أو فريق البحث، بالتعرف عليها عن قرب، والمعاينة الميدانية لتجلياتها.
يقودنا هذا إلى التساؤل عن الكثير من الدراسات التي توضع في عالمنا العربي، ليس عن تجارب أخرى لا نعرفها، وإنما أيضاً عن واقعنا نفسه، حيث تحوم في التجريد والعموميات ولا تحفر في الواقع نفسه وتعقيدات تضاريسه، فتظل بحوثاً عن بُعد، لا تحلل واقعنا بعمق، رغم أن أصحابها يدَّعون معرفته.
02/07/2015