حين يرد اسم الزعيم الوطني المصري طلعت حرب، ترد إلى الأذهان صورة رجل الأعمال المتنور، الواعي، المدرك للدور الذي على رأس المال الوطني أن يقدمه في خدمة وطنه ونهضته. إنه النموذج النقيض للأثرياء الجدد الذين أتوا في مراحل الانفتاح وكونوا ثرواتهم بطرق «الفهلوة» والتحايل على القانون، هذا أصلاً إذا أخذوا وجود هذا القانون في الحسبان.
ثمة فروق بين البرجوازية الوطنية المستنيرة العصامية، التي توظف ثروتها وتبنيها جنباً إلى جنب مع تطوير المجتمع الذي تعيش فيه، وبين تلك الطفيلية التي تسرق المال العام وتضاعف ثرواتها من نهبه.
أسَّس طلعت حرب «بنك مصر» بفروعه الدولية، وأنشأ شركة الغزل والنسيج والمصانع في مدينة المحلة الكبرى والورش الصناعية، إضافة إلى شركة للنقل البري، وأخرى للنقل النهري، وثالثة للملاحة البحرية، وشركة مصر للطيران التي بدأت بالرحلات الداخلية ثم فتحت أول خط خارجي على يديه عام 1934 برحلات إلى القدس وغيرها. كما بنى مصانع لحلج القطن، ولأعمال الإسمنت المسلح وللمناجم والمحاجر وتصنيع الزيوت والمستحضرات الطبية، والكيماويات، وكذلك شركات للتأمين، والفنادق.
لكن لطلعت حرب وجهاً مهماً آخر، فهو لم يكتف بالاستثمار في هذه المجالات الحيوية وحدها، وإنما أولى عناية للاستثمار في الثقافة، فأسس «مطبعة مصر»، في وعي منه لما للمطابع من دور في نهضة الأمم عبر نشر الكتب وتعميم المعرفة، بل وأسس «ستوديو مصر» ليضع اللبنة الأولى في الإنتاج الفني، الذي ميَّز مصر في العقود التالية حتى اليوم.
في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي زارت السيدة أم كلثوم طلعت حرب في مكتبه، لتأخذ منه المشورة في مأزق وجدت نفسها فيه مع إحدى شركات الأسطوانات، وهي في بداية عهدها في تسجيل أغانيها، إذ وجدت نفسها عاجزة عن الوفاء بشرط يفرضه العقد الجزائي. ولأن الرجل يقدر الفن وأهله، ويدرك عظم موهبة أم كلثوم، فلم يتردد في تقديم قرض لها بلا ضمان بقيمة ألفي جنيه مصري، وهو مبلغ كبير جداً آنذاك، ما ساعدها على تسوية مصاعبها المالية والانطلاق فنياً نحو أرحب الآفاق.
بعد ذلك بسنوات ترد أم كلثوم التحية للرجل بأن تغني في حفل أقيم لتخليد ذكراه قصيدة كتب كلماتها صالح جودت، جاء في مطلعها: يا شبابَ الثورةِ البيضاءِ في الوادي الأمينْ/ اذكروهُ خَلِّدوه في كتابِ الخالدينْ/ ثائرٌ لا تنتهي آمالُهُ خالدٌ لا تنطوي آجالُهُ.
24 يونيو 2015