المنشور

أمريكا وعُقدة الثقافة

في زمن
سابق اشترى ثري أمريكي ديراً قديماً من إسبانيا ونقله قطعة قطعة إلى أمريكا
بعد أن فككت أجزاؤه حجراً حجراً وأعيد بناؤه في فلوريدا، ثم حوَّله إلى
متحف يدخل إليه الزائرون بأجر ليستعيد هذا الثري ما أنفقه من مال على
الشراء والنقل وإعادة التشييد، ثم يجني الأرباح. هذه حكاية أوردها د. زكي
نجيب محمود في كتابه: «أيام في أمريكا»،الذي دوّن فيه وقائع رحلة قام بها
إلى الولايات المتحدة، واستشهد بها أمام مضيفيه الأمريكان لتعضيد فكرته من
أنه لا يوجد لأمريكا تراث ثقافي نابع من بيئتها يمكن الاعتداد به، لذلك
يلجأون إلى «استعارة» أو حتى «شراء» آثار من أوروبا على نحو ما فعل هذا
الثري مع الدّير الإسباني القديم، وإذا تعذر الشراء فربما يأتي التهريب.


علينا
ملاحظة أنه حتى في التعامل مع إرث ثقافي كالدير المجلوب من إسبانيا، لا
يتحرر الأمريكي من ذهنية وسلوك «البيزنس»، فالغاية لم تكن فقط في «افتعال»
تراث ثقافي ليس قائماً، وإنما تحويل هذا الافتعال إلى وسيلة تَكسب للمال.
يقول د. زكي نجيب محمود في كتابه إن الفن لا يتغلغل عميقاً في حياة
الأمريكي، فالأمريكيون «يضيفون» الفن إلى حياتهم إضافة من خارج، من دون أن
يمس منهم القلب والصميم، وإذا حدث أن تبرع أحد ممن يملكون الملايين بشراء
صور أو تماثيل يهديها إلى هذا المتحف أو ذاك، فإن ذلك غالباً ما يأتي من
باب التكفير عن خطيئة إهماله للثقافة والفن طوال سنوات لهثه وراء الثروة.


ألا
يفسر ذلك أن الأمريكان لم يظهروا أي حساسية ثقافية أو فنية تجاه الآثار
العائدة إلى عصور سحيقة في البلدان التي احتلوها أو حاربوا فيها؟ ومع أن
الاستعمار في كل صوره من قماشة واحدة، فلا يوجد استعمار جيد وآخر سيئ، لكن
هل بالوسع أن ننجو من المقارنة بين الطريقة التي تصرف بها الفرنسيون مع
الآثار المصرية في حملة نابليون، وطريقة تصرف القوات الأمريكية مع مقتنيات
المتحف العراقي بعد سقوط بغداد في أيديهم؟
لقد أحكموا السيطرة على منابع
النفط وما زالوا، وأمَّنوا الحراسة الشديدة على مبنى وزارة النفط والبنك
المركزي، فيما تركوا المتحف العراقي من دون حراسة حيث كانت الفضائيات
تُصَور الجنود الأمريكان يتفرجون على الرّعاع وعصابات الاتجار بالآثار وهم
يسرقون مقتنيات المتحف من قطع ثمينة ونادرة.