الموضة لا تزيلها سوى موضة أخرى. أشدّ ما تظهر هذه الظاهرة في عالم الأزياء. حين تسود موضة ما يصعب على الجميع عدم مجاراتها. سيغدو ما يرتديه من لم يُجارها من ملابس نشازاً، أو علامة عجزت عن مواكبة الجديد. ونضع «الجديد» هنا بين مزدوجين، لأن نظرة على تاريخ الأزياء ستظهر أن ما هو جديد، ليس كذلك حقيقة، إنما هو «تدوير» لموضات سادت في عقود ماضية، ربما لم يدركها أبناء اليوم.
لو أن الأمر وقف عند حدود الأزياء وحدها لهان الأمر. المشكلة أن الفكر والثقافة، هما الآخران، يعانيان سطوة الموضة. حين يسود تيار فكري أو سياسي معين، فإنه يمارس سطوته على الجميع، ويصبح الرافضون له أو المتحفظون عليه ضحايا إرهاب «الوعي» الجمعي المأخوذ بالدرجة السائدة، أو الصاعدة.
في خمسينات القرن العشرين سادت موجة الوجودية في فرنسا، فغدا لها منتدياتها ومنابرها ومريدوها على أوسع نطاق، وبلغ تأثيرها الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، لا في صفوف الأساتذة وحدهم، وإنما الطلبة أيضاً.
الفرنسيون بالذات بارعون في أمر الموضات هذه. ولا همّ إذا أدى ذلك إلى انغلاقهم على أنفسهم، بوجه الثقافات «الآنجلو سكسونية»، لكنهم يقرون بتأثرهم بالألمان، لكن، حتى في هذا، لا يخلو الأمر من نرجسية ثقافية، فهم يرون أن كانط وهيغل وماركس ونيتشه يدينون في شهرتهم لشارحيهم الفرنسيين.
لكن الموضة، أي موضة، حتى لو كانت فلسفية أو فكرية لا تدوم. تأتي موضة أخرى فتزعزع مواقعها وتقصيها عن الواجهة، لا بل تهمشها كلياً أحياناً. فرنسا، أيضاً، هي المختبر النموذجي لذلك. بعد أن أمسكت «الوجودية» بمفاصل رئيسية في الحركة الثقافية هناك، كان عليها أن تخلي مواقعها أمام موضة جديدة صاعدة بقوة، هي «البنيوية»، وحسب تعبير د.جورج زيناتي في تقديمه لترجمته كتاب بول ريكور «التاريخ، الذاكرة، النسيان»، فإنه «فجأة أصبح كل شيء بنيوياً»، لا بل حتى «الفرويدية» و«الماركسية» وجدتا لهما نسخاً بنيوية.
في عالمنا العربي ينطوي الأمر على مفارقة ساخرة. «الوجودية» راجت عندنا، بعد أن انحسرت في مسقط رأسها، حين تعرف إلى بعض مبادئها مثقفونا وأدباؤنا عن طريق الترجمة، يوم تولت «دار الآداب» في عهد مؤسسها د. سهيل إدريس نقل مؤلفات بعض رموزها إلى العربية. سيتكرر الأمر مع «البنيوية»، التي جاءتنا بعد أن كانت فرنسا انعطفت إلى ما بعدها.