ما من كتاب حرضني على التأمل في أحوالنا مثل هذا الكتاب الذي سآتي على ذكره أدناه، حيث لسان حال كل واحد منا يقول، ماذا حدث لنا؟، كيف تبدلت أحوالنا ومظاهر سلوكنا؟
الكتاب الذي أعنيه من أكثر الكتب التي صدرت خلال السنوات الماضية تشويقاً وفائدة، كتاب د. جلال أمين، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في القاهرة الموسوم: «ماذا جرى للمصريين؟». والحق أن مؤلفات أمين جميعها تستوقفنا وتفتح لنا مسالك جديدة نحو المعرفة، لكن هذا الكتاب بالذات من أكثر الكتب التي اشتغلت بذكاء وبعمق شديدين على التحولات التي جرت في بلد مفصلي بالنسبة لنا جميعاً وليس لأهله وحدهم، ونعني به بالطبع مصر.
وجلال أمين لم يُرد لكتابه هذا أن يكون تمجيداً لمصر فحسب، فهو كتبه بعين راصدة ناقدة، أراد بها تتبع وتشخيص ما حدث للمصريين من تغير في السلوك والعادات وأنماط التفكير والعيش تحت تأثير التبدلات الاقتصادية والاجتماعية والتغير في طبيعة النظم السياسية التي تعاقبت على مصر في تاريخها المعاصر، من دون أن يغفل علاقة ذلك بالتحولات في محيط مصر الإقليمي وبتأثيرات العولمة التي لم ينج منها بلد في العالم، حتى لو كان بلداً بعمق مصر الحضاري والبشري وفرادة تطورها منذ عصورها المبكرة.
وأنصح القارئ بأن يعود لهذا الكتاب مراراً، إذا أراد تلمس التأثيرات الجارية في حياتنا جميعاً، لا في حياة المصريين وحدهم، لأنه يحملنا على الاعتقاد أنه بالإمكان أن تكون هناك كتب أخرى لمؤلفين آخرين تحمل عناوين من نوع: «ماذا جرى للخليجيين؟»، أو «ماذا جرى للسوريين؟»، أو «ماذا جرى للبنانيين؟» وعلى هذا المنوال يمكن مواصلة القياس.
والفكرة، على كل حال، ليست في العنوان، وإنما في منهج البحث الذي به تناول جلال أمين موضوعات الكتاب، فهو لم يكتب على طريقة بعض أساتذة الاقتصاد الذين لا يستطيعون قول شيء خارج جداول الإحصاء والأرقام، وإنما وظف عدته الفكرية، كمثقف موسوعي يقف على تخوم علوم عدة في تشريح موضوعاته.
وهكذا طاف بنا الباحث في شؤون السياسة وأهمية التحولات الديمقراطية، وتتبع تبدل عادات المصريين من طريقة اللبس إلى شكل السياحة والتصييف، إلى منظومة القيم التربوية والثقافية والأخلاقية، وهو بذلك يستفزنا جميعاً لمراقبة كل مجتمعاتنا العربية، ما الذي تغير فيها، ويضعنا وجهاً لوجه أمام السؤال الكبير: كيف فعلنا بأنفسنا كل هذا؟