كثيرة
جداً هي علامات الاستغراب والدهشة والاستغراق المحير في التفكير، تلك التي
يثيرها هذا الزخم المتدفق والمتواصل الذي يحظى به تنظيم «داعش» الإرهابي،
متمثلاً في السيل الجارف للمتطوعين الذين يتقاطرون من كل أصقاع الأرض
للقتال في صفوفه في سوريا والعراق وفي أماكن تواجده الأخرى!
جداً هي علامات الاستغراب والدهشة والاستغراق المحير في التفكير، تلك التي
يثيرها هذا الزخم المتدفق والمتواصل الذي يحظى به تنظيم «داعش» الإرهابي،
متمثلاً في السيل الجارف للمتطوعين الذين يتقاطرون من كل أصقاع الأرض
للقتال في صفوفه في سوريا والعراق وفي أماكن تواجده الأخرى!
فما الذي يجعل إيديولوجية «داعش» المقطوعة الصلة بالحياة المعاصرة.. وما
الذي يجعل ممارسات هذا التنظيم التي أعادت إحياء الحياة المرعبة لإنسان
عصر الوحشية، وطقوس عصر وحشية أباطرة وأمراء ونبلاء روما القيصرية في دفعهم
للمصارعين البؤساء إلى داخل حلبة الموت والتفرج عليهم وهم يفترسون بعضهم
بعضاً كضواري القفار، ووحشية عصر البرابرة في أوروبا العصور الوسطى وما
قبلها، حيث قامت «القيم» والعادات والأعراف القبلية البربرية على ضرورة
الأخذ بالثأر عندما تلحق إهانة بأسرة المرء أو قبيلته مع تسيد طقوس قطع
الرؤوس البشرية كنوع من استعراض القوة، ووحشية سكان وقبائل الجزر النائية
في جنوب شرق آسيا التي اقتحمتها طلائع الاستعمار الأوروبي في بداية القرن
السابع عشر، والتي كانت عبارة عن عالم بالغ الوحشية بكل معنى الكلمة، فكان
يكفي أن يضل شخص طريقه في إحدى هذه الجزر والأدغال المجهولة لينتهي به
المطاف كوليمة شهية لأفراد قبائل ال «كوروايا» الوحشية في جزر بابوا غينيا
الجديدة، أو أن يتدلى رأسه كزينة جميلة في أحد بيوت قبائل «الن كوت» في
الفلبين، أو أن تقدم جمجته كمهر لعروس جميلة لدى إحدى القبائل البربرية في
تايوان القديمة.. نقول ما الذي يجعل إيديولوجية وجرائم «داعش» الطقوسية
التي تعيد إنتاج كل تلك الأعمال الهمجية وتزيد عليها «لمسات طبعتها
المعصرنة»، براقة إلى هذا الحد الذي صرنا نعرف من خلال الدفق غير المنقطع
«للمهاجرين» إلى جبهات قتالها؟
الذي يجعل ممارسات هذا التنظيم التي أعادت إحياء الحياة المرعبة لإنسان
عصر الوحشية، وطقوس عصر وحشية أباطرة وأمراء ونبلاء روما القيصرية في دفعهم
للمصارعين البؤساء إلى داخل حلبة الموت والتفرج عليهم وهم يفترسون بعضهم
بعضاً كضواري القفار، ووحشية عصر البرابرة في أوروبا العصور الوسطى وما
قبلها، حيث قامت «القيم» والعادات والأعراف القبلية البربرية على ضرورة
الأخذ بالثأر عندما تلحق إهانة بأسرة المرء أو قبيلته مع تسيد طقوس قطع
الرؤوس البشرية كنوع من استعراض القوة، ووحشية سكان وقبائل الجزر النائية
في جنوب شرق آسيا التي اقتحمتها طلائع الاستعمار الأوروبي في بداية القرن
السابع عشر، والتي كانت عبارة عن عالم بالغ الوحشية بكل معنى الكلمة، فكان
يكفي أن يضل شخص طريقه في إحدى هذه الجزر والأدغال المجهولة لينتهي به
المطاف كوليمة شهية لأفراد قبائل ال «كوروايا» الوحشية في جزر بابوا غينيا
الجديدة، أو أن يتدلى رأسه كزينة جميلة في أحد بيوت قبائل «الن كوت» في
الفلبين، أو أن تقدم جمجته كمهر لعروس جميلة لدى إحدى القبائل البربرية في
تايوان القديمة.. نقول ما الذي يجعل إيديولوجية وجرائم «داعش» الطقوسية
التي تعيد إنتاج كل تلك الأعمال الهمجية وتزيد عليها «لمسات طبعتها
المعصرنة»، براقة إلى هذا الحد الذي صرنا نعرف من خلال الدفق غير المنقطع
«للمهاجرين» إلى جبهات قتالها؟
سؤال محير فعلاً! والمثير والمحير أكثر
أنه حتى مواطنو البلدان المتقدمة (الأصليين غير المجنسين) في أوروبا
الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا، قد بدأوا هم أيضاً
بالالتحاق برهط « أرض الخلافة»، مدفوعين بالإعجاب الفضولي والانجذاب
المسحور لما يفعله «جنود داعش» بالبشر والحجر في المناطق التي يفترسونها.
أنه حتى مواطنو البلدان المتقدمة (الأصليين غير المجنسين) في أوروبا
الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا، قد بدأوا هم أيضاً
بالالتحاق برهط « أرض الخلافة»، مدفوعين بالإعجاب الفضولي والانجذاب
المسحور لما يفعله «جنود داعش» بالبشر والحجر في المناطق التي يفترسونها.
فتجدهم
يسارعون للاستجابة لنداء « البغدادي»، فيهجرون أهاليهم وأصدقائهم ومقاعد
دراستهم والأماكن الدافئة التي احتضنت طفولتهم وصباهم، ويزوغون عن الأعين
ليظهروا فجأة في تركيا، محطة ترانزيت نقل االمسلحين إلى سوريا أساساً
والعراق تالياً!
يسارعون للاستجابة لنداء « البغدادي»، فيهجرون أهاليهم وأصدقائهم ومقاعد
دراستهم والأماكن الدافئة التي احتضنت طفولتهم وصباهم، ويزوغون عن الأعين
ليظهروا فجأة في تركيا، محطة ترانزيت نقل االمسلحين إلى سوريا أساساً
والعراق تالياً!
كيف للعقل أن يهضم ويستوعب ويفسر قراراً مصيرياً يتعلق
ليس فقط بتغير نمط الحياة وإنما بالحياة والموت أيضاً، يتخذه إنسان
بالانتقال الدراماتيكي من الحياة المدنية المعاصرة، في أرقى صور تمظهرها
الحضاري، ونعني بذلك مجتمعات الغرب الصناعي، إلى المجتمع الحيواني الذي لا
يقام فيه وزنٌ لا للإنسان باعتباره القيمة الأسمى في هذه الدنيا التي كرمها
الله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَىكَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا – سورة الاسراء)، ولا للحضارة
المعاصرة التي نظمت حياة البشر ورفعت شأنهم ومراتبهم من أسفلها إلى أرقاها؟
ليس فقط بتغير نمط الحياة وإنما بالحياة والموت أيضاً، يتخذه إنسان
بالانتقال الدراماتيكي من الحياة المدنية المعاصرة، في أرقى صور تمظهرها
الحضاري، ونعني بذلك مجتمعات الغرب الصناعي، إلى المجتمع الحيواني الذي لا
يقام فيه وزنٌ لا للإنسان باعتباره القيمة الأسمى في هذه الدنيا التي كرمها
الله (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ
عَلَىكَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا – سورة الاسراء)، ولا للحضارة
المعاصرة التي نظمت حياة البشر ورفعت شأنهم ومراتبهم من أسفلها إلى أرقاها؟
سوف ينسب البعض ذلك بطبيعة الحال إلى تأثيرات المال وإلى مغريات النعم
الحسية التي يروّج لها التنظيم على مدار الساعة عبر منتدياته المتكاثرة
كالفطر دونما حسيب أو رقيب.
الحسية التي يروّج لها التنظيم على مدار الساعة عبر منتدياته المتكاثرة
كالفطر دونما حسيب أو رقيب.
دعونا نُقِر بأن هذا التفسير ينطوي على بعض
الصحة، ذلك أن كثيراً ممن ينجذبون للقتال في صفوف «داعش» هم من الفقراء
المعدمين الذين تجتذبهم مرتبات و«غنائم» التنظيم ومحفزات أوهامه الأخرى.
الصحة، ذلك أن كثيراً ممن ينجذبون للقتال في صفوف «داعش» هم من الفقراء
المعدمين الذين تجتذبهم مرتبات و«غنائم» التنظيم ومحفزات أوهامه الأخرى.
فضلاً عن عوامل الإثارة والتشويق التي يضفيها على أعماله البهلوانية الاستعراضية.
فهنالك
سوق رائجة لهواة المغامرة وأفلام الرعب، ومثل هؤلاء سيجدون، بلا ريب
ضالتهم في أفلام الرعب الحقيقية التي «ينتجها ويخرجها»«داعش».
سوق رائجة لهواة المغامرة وأفلام الرعب، ومثل هؤلاء سيجدون، بلا ريب
ضالتهم في أفلام الرعب الحقيقية التي «ينتجها ويخرجها»«داعش».
وهنالك
مجاميع من الناس الذين لم يعودوا يطيقون العيش في المجتمعات التي أنجبتهم
وتربوا ونشأوا في كنفها، فصاروا، بفعل سنوات من التحضير الروحي والنفسي،
المشفوع بضخ إيديولوجي ذي نزعة انعزالية، يشعرون بأنهم غرباء وسط البيئات
التي يتحركون في دوامتها اليومية، ويتحينون الفرصة للفرار والهجرة إلى
البيئات «المثالية» الحالمة التي أنشأوها في مخيلاتهم السارحة.
مجاميع من الناس الذين لم يعودوا يطيقون العيش في المجتمعات التي أنجبتهم
وتربوا ونشأوا في كنفها، فصاروا، بفعل سنوات من التحضير الروحي والنفسي،
المشفوع بضخ إيديولوجي ذي نزعة انعزالية، يشعرون بأنهم غرباء وسط البيئات
التي يتحركون في دوامتها اليومية، ويتحينون الفرصة للفرار والهجرة إلى
البيئات «المثالية» الحالمة التي أنشأوها في مخيلاتهم السارحة.
وما دام
الشيء بالشيء يذكر، فلعلنا نتذكر بهذا الصدد كيف أن بعض سكان المناطق غير
الحضرية في بلاد الغرب، لاسيما في ولايات الجنوب الأمريكي، مازالوا يكرهون
الحياة الحضرية المعاصرة، حيث يعيشون في معازل يمارسون فيها طقوسهم
الحياتية التي يهيمن عليها الاقتصاد الطبيعي القائم على الفلاحة وتربية
الماشية.ويكملون هذا الجو بممارسة طقوس دينية انغلاقية لا تتسامح مع
«الغرباء». وظهر من بينهم أدعياء نبوة وتمرد على الحياة المعاصرة، انتهى
بهم وبأنصارهم المطاف إلى عمليات «انتحار جماعي» مازال يلفها الغموض.
الشيء بالشيء يذكر، فلعلنا نتذكر بهذا الصدد كيف أن بعض سكان المناطق غير
الحضرية في بلاد الغرب، لاسيما في ولايات الجنوب الأمريكي، مازالوا يكرهون
الحياة الحضرية المعاصرة، حيث يعيشون في معازل يمارسون فيها طقوسهم
الحياتية التي يهيمن عليها الاقتصاد الطبيعي القائم على الفلاحة وتربية
الماشية.ويكملون هذا الجو بممارسة طقوس دينية انغلاقية لا تتسامح مع
«الغرباء». وظهر من بينهم أدعياء نبوة وتمرد على الحياة المعاصرة، انتهى
بهم وبأنصارهم المطاف إلى عمليات «انتحار جماعي» مازال يلفها الغموض.
وهناك
أناس أيضاً اختاروا الهجرة إلى الغابات والصحاري والقفار لاعتزال صخب
الحياة المدنية و«دنسها ورجسها والتحلل من أدرانها»! ومن ذلك الحركة
الهيبية (Hippies) التي نشأت في الولايات المتحدة بين طلاب بعض الجامعات
كظاهرة اجتماعية شبابية احتجاجية في ستينات وسبعينات القرن العشرين الماضي،
ثم ما لبثت أن انتشرت في بقية الدول الغربية.
أناس أيضاً اختاروا الهجرة إلى الغابات والصحاري والقفار لاعتزال صخب
الحياة المدنية و«دنسها ورجسها والتحلل من أدرانها»! ومن ذلك الحركة
الهيبية (Hippies) التي نشأت في الولايات المتحدة بين طلاب بعض الجامعات
كظاهرة اجتماعية شبابية احتجاجية في ستينات وسبعينات القرن العشرين الماضي،
ثم ما لبثت أن انتشرت في بقية الدول الغربية.
وهي حركة عُرفت بمناهضتها
للقيم الرأسمالية ولمظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، والدعوة
لعالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام.
للقيم الرأسمالية ولمظاهر المادية والنفعية وثقافة الاستهلاك، والدعوة
لعالم تسوده الحرية والمساواة والحب والسلام.
وقد ميز نشطاء وأنصار
الحركة أنفسهم بإطالة شعورهم وارتداء الملابس البالية والفضفاضة والإقامة
في مخيمات منصوبة في العراء كتعبير عن قربهم من الطبيعة وانتمائهم لها.
الحركة أنفسهم بإطالة شعورهم وارتداء الملابس البالية والفضفاضة والإقامة
في مخيمات منصوبة في العراء كتعبير عن قربهم من الطبيعة وانتمائهم لها.
وقد استطاعت هذه الحركة استقطاب ملايين الشباب في الغرب، لكنها سرعان ما بدأت في التراجع والزوال.
قلنا
إن بعض المحللين اختار نسبة انجذاب مجاميع غفيرة من الشباب حول العالم
لتنظيم «داعش» إلى تأثيرات المال وإلى مغريات النعم الحسية التي يروّج لها
التنظيم على مدار الساعة عبر منتدياته المتكاثرة كالفطر دونما حسيب أو
رقيب.
إن بعض المحللين اختار نسبة انجذاب مجاميع غفيرة من الشباب حول العالم
لتنظيم «داعش» إلى تأثيرات المال وإلى مغريات النعم الحسية التي يروّج لها
التنظيم على مدار الساعة عبر منتدياته المتكاثرة كالفطر دونما حسيب أو
رقيب.
وقلنا إن مثل هذا التفسير ينطوي على جانب من الصحة، وكان يمكن أن
يكون التفسير الأرجح لهذه الظاهرة، لولا أن «داعش» يستقطب أيضاً النخب
المتعلمة إلى جانب اجتذابه للدهماء.
يكون التفسير الأرجح لهذه الظاهرة، لولا أن «داعش» يستقطب أيضاً النخب
المتعلمة إلى جانب اجتذابه للدهماء.
وهذا أدعى للبحث عن سبب أكثر وجاهةً وإقناعاً.