في مقال الأسبوع الماضي «الكراهية.. صانعة الأعاجيب»، أوضحنا كيف تم استنفار واستثارة واستدعاء مشاعر الكراهية في معمعان أضخم حدثين كبيرين هزّا المنطقة في عام 1979 هما الثورة الإيرانية والغزو السوفييتي لأفغانستان، وكيف تم توظيف هذه المشاعر العدائية كسلاح تدميري لا يقل خطورةً وتدميراً عن أسلحة الدمار الشامل الحديثة، حيث أثبت هذا السلاح الفتاك أنه صناعة رائجة بالنظر لمفعوله السحري العجيب في سرعة إيغال الصدور وإحماء الرؤوس بمبثوث أحقاده وضغائنه، ومركمتها ثم صهرها في بوتقة كراهية فئات المجتمع الواحد لبعضها بعضا، وإهدارها لما كان مستقراً من خصوصيات لم تخترعها أيٌ منها وإنما ورثتها كأسمائها من أسلافها في نفس الحاضنة والبيئة الاجتماعية التي شاءت ظروف المكان والزمان وتقلبات الدهر أن تضعها جميعاً في مستقر واحد تتعايش وتتساكن فيه من دون أن تشكل هوياتها الفرعية هذه أي معوق أو منغص لتعايشها وتساكنها لعقود مديدة في كنف الهوية الكلية الجمعية.
اليوم وقد أدرك الجميع، أو هكذا نزعم افتراضاً، باعتبار ذلك محصلة منطقية لما أنتجته صناعة الكراهية من دمار وخراب لم يوفرا أحداً، فإننا نعيد طرح تساؤلنا المؤسس على النتائج الكارثية لمفاعيل صناعة الكراهية، ومفاده، لماذا لا يتم تجريب فضيلة التوادد والإخاء الإنساني، لإعادة بناء ما تم هدمه وتدميره على أيدي الكراهية، وذلك اعتباراً بحقيقة أن مفعولها كصناعة، أقوى وأوسع وأكثر تأثيراً من مفاعيل صناعة الكراهية. فضلاً عن أن فضيلة الحب والتوادد، هي صناعة بناء وتعمير، على عكس صناعة الكراهية المكرسة للتخريب والتدمير؟
بطبيعة الحال فإن الشك لا يخامر أياً منا في وجوب احترام الخصوصيات التي رافقت عملية النشوء والتشكل الأولى لفسيفساء الخريطة الاجتماعية والإثنية والمعتقدات الدينية لمجتمعاتنا، وذلك بموازاة أهمية وضرورة الإبقاء على درجة عقلانية من الانسجام مع ما يعبَّر عنه بالعقل المجتمعي أو الأنا الأعلى، الرامز في ثقافتنا إلى هوية المجتمع العربي والإسلامي وذاكرته ومعتقده وثقافته. وكان هذا التآلف والانسجام بين الهوية الكلية، الوطنية والقومية، الجامعة، وبين الهويات الفرعية الأصغر، حادثي الوقوع بدرجة معقولة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة مذ راحت تحاول شق طريقها للتحرر من السيطرة العثمانية ومن بعدها السيطرة الاستعمارية الغربية، بعناوين وطنية وقومية ذات استهدافات في البناء والعمران، تحديثية وتمدينية تقدمية. ولم يكن يعكر صفو بوتقة هذا الانصهار للفرعيات في الكليات سوى بعض «الانفلاتات» العصبية الطفيفة المستدعاة من الماضي من قبل بعض مراكز القوى المجتمعية المناهضة لطبيعة المسار التقدمي للدولة العربية الحديثة. ولكن هذه «الانفلاتات» كانت تفتقر حينها إلى القوة التي تسعفها على معاكسة التيار العام السائد آنئذ بين علاقات مختلف القوى المجتمعية، والتي غلبت عليها مناقبيات التسامح والإخاء الإنساني.
ولكن ما إن بدأت الدولة العربية المدنية الناشئة، بدفع من الاستبداد والفساد، تسليم مواقعها الواحد تلو الآخر للدولة الدينية الشاقة طريقها بهدوء أولاً وبصخب ضاج تالياً، حتى بدأت تخبو رويداً رويداً وبصورة محسوسة رموزها (الدولة المدنية) والمحتويات الثقافية التقدمية التي أنشأتها وبذرتها على كامل الرقعة الاجتماعية العربية. وها نحن اليوم نحصد ما تم زرعه منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي من بدائل ماضوية إحلالاً لمناقبيات وقيم ومثل الدولة المدنية. حتى ليكاد القارئ المتفحص لطوفان التراجع المريع على هذا الصعيد، أن يعيد إسقاط وتصديق ما كان قد قاله يوماً (في عام 1663) فرانسوا ماري أرويه المعروف باسم فولتير (1694-1778) في مؤلفه «رسالة في التسامح»، عن شعبه الفرنسي وهو يوصف حال التعصب الذي أعمى بصيرة الفرنسيين، نخبهم وعوامهم من: «إنه مسألة داخلية، إنه مرض متجذر في أعماق الشعب الفرنسي، وفي أعماق عائلته الشخصية وطائفته الكاثوليكية بالذات». بهذه الكلمات الواضحة لم يتردد فولتير، وهو المنتمي إلى الطائفة الكاثوليكية، في إدانة جميع المجازر التي ارتكبها الكاثوليك بحق البروتستانتيين كمجزرة مدينة فاسي ثم بالأخص مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة. معتبراً «أن العنف المسعور الذي يدفع إليه العقل اللاهوتي المغلق، والغلو في الدين المسيحي المساء فهمه، قد تسببا في سفك الدماء وفي إنزال الكوارث بألمانيا، وإنجلترا، بل حتى بهولندا، بقدر لا يقل عما حدث في فرنسا».
قبل فولتير كان الفيلسوف الانجليزي التنويري جون لوك قد نشر في عام 1689 رسالته في التسامح (رسالة في التسامح) باللغة اللاتينية خلوا من اسمه، قبل أن تترجم إلى اللغة الإنجليزية، دعا فيها إلى القضاء على بنية التفكير الاحادي المطلق وروح التعصب الديني المغلق وإقامة الدين على العقل وبناء منظومة حقوق تؤسس لمفهوم التسامح. أي أن فولتير أعاد بعد 64 سنة نشر دعوة التسامح التي كان قد أطلقها سلفه جون لوك، ويا للمفارقة، بنفس العنوان «رسالة في التسامح»، كدليل على النضال الدؤوب والمستمر الذي خاضه رواد عصر النهضة والنزوع الإنساني في القارة الأوروبية والذي أثمر بعد سنين طوال نجاحاً كاسحاً للمجتمعات الأوروبية في سحبها لفيروس الكراهية من التداول في علاقات مختلف فئات المجتمع ببعضها بعضا.
واليوم وبعد مرور أكثر من قرنين ونصف القرن على صدور كتاب فولتير «رسالة التسامح»، فإن مجتمعاتنا مازالت تعيد إنتاج ثقافة وممارسات الإقصاء وتكفير واضطهاد ومحاربة المعتقد المغاير وأصحابه التي كانت سائدة في تلك الحقبة السوداء من تاريخ فرنسا وأوروبا بشكل عام. وهذا يكفي بحد ذاته لاستفزاز وتحفيز همة العقلاء لأن يعظموا جهودهم لإعادة طرح «رسالة التسامح» التي طرحها جون لوك صاحب مقولة «إن حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين»، ثم عرضها من بعده فولتير على الشعب الفرنسي في تلك الحقبة من تاريخ فرنسا وقوله الشهير فيها «إننا جميعاً مجبولون على الضعف والخطأ، فليغفر كل منا حماقة أخيه». فلاشك أن دعوة جون لوك ومن بعده فولتير للتسامح، وبمعيتهما أيضاً فلاسفة عصر التنوير مثل ديدرو وروسو، هي نفسها التي يجب أن تحتل اليوم عناوين مبادراتنا ونقاشاتنا وحواراتنا الباحثة والباغية إعادة بناء علاقاتنا المجتمعية بهدف تخليصها من عدوى هذا الفيروس المدمر. وحيث إنه تم تجريب «سلاح الكراهية» ورأى الجميع نتائجه الكارثية، لماذا – مرة أخرى – لا يُصار إلى تجريب التسامح كصناعة للتوادد والإخاء الإنساني؟
حرر في 22 مايو 2015