أكثر من مئة وثلاثين سنة هو العمر الذي امتد بالحروب الدينية التي شهدتها بلدان القارة الأوروبية وغطت معظم القرن السادس عشر ونحو نصف القرن السابع عشر (من
1517
إلى 1648م)، وكانت ألمانيا والنمسا وفرنسا وإنجلترا واسكتلندا وإيرلندا وهولندا والدنمارك وبوهيميا، مسرحاً لها . وقد اندلعت أساساً على خلفية ظهور حركة الاصلاح البروتستانتية، التي تعني الاحتجاج، والتي قادها في عام 1517 الراهب والقسيس وأستاذ اللاهوت الألماني مارتن لوثر بهدف إصلاح الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الغربية وتنقيتها مما اعتبرته شرائح واسعة من الأوروبيين أفكاراً منحرفة وتصرفات غير لائقة تتم خلف جدران الكنيسة، وفي مقدمتها بيع صكوك الغفران، وشراء رجال الدين المناصب العليا كالمطران والكاردينال وصولاً إلى منصب البابا . وقد أدى ظهور هذه الحركة الإصلاحية والحرب البشعة التي شنتها الكنيسة ضد أنصارها الذين تعاظمت أعدادهم بسرعة هائلة بسبب ظلم وجور الكنيسة لعامة الناس، إلى انقسام العالم المسيحي في أوروبا إلى نصفين، نصف يدين بالولاء للكاثوليكية والنصف الثاني للبروتستانتية
.
وكانت فرنسا أكثر مسارح تلك الحروب شراسةً ودموية، حيث امتدت على مدار 36 عاماً، من 1562 إلى 1598 بصورة متقطعة كانت تتخللها فترات سلام وجيزة بين طرفي الصراع والحرب الأهلية الدينية، الكاثوليك والبروتستانت . وكانت حصيلتها 8 حروب عدت كافية لتدمير مملكة فرنسا في النصف الثاني من القرن السادس عشر، مذ عمد الملك هنري الثاني في أواخر حكمه إلى تسييس الصراع الاجتماعي وتعمد اقحام العامل الديني فيه، إمعاناً في استمرار اضطهاد مناصري أفكار مارتن لوثر الاصلاحية . ولما كانت الكنيسة هي الحاكم الفعلي، لممالك أوروبا في ذلك الوقت، بما في ذلك عزل وتثبيت الملوك والأمراء عن طريق سحب الثقة منهم وفصلهم من الكنيسة، فقد استغلت عامة الناس للدفع بهم فيما اعتبرته حربا مقدسة للكاثوليكية ضد البروتستانتية،
أُبيد خلالها حوالي 40% من شعوب أوروبا المنتمية للبروتستانتية وما يقرب من نصف سكان ألمانيا تحديدا الذين اعتنقت أغلبيتهم الدين الجديد، حيث أُنشئت ما تسمي بمحاكم التفتيش خصيصا لبث الرعب في نفوس الناس لردعهم عن الخروج من الكاثوليكية، ومحاكمة من اعتبرتهم مرتدين ومخالفين لأوامر الكنيسة، فأبادت الملايين خنقاً وحرقاً وإغراقاً وشنقاً، وما إلى ذلك من وسائل القتل والتنكيل المروعة
.
وقبل ذلك بنيف وأربعمئة سنة كانت الكنيسة الكاثوليكية قد حرضت على قتال المسلمين في الشرق، مدشنة حملتها التحشيدية بالنداء الذي وجهه البابا “أوريان الثاني” في نوفمبر 1095 إلى رجال الدين وأمراء أوروبا لشن حرب على المسلمين بحجة تخليص “الأرض المقدسة” من سيطرتهم، تحقيقاً “لرغبة المسيح
” .
وشهدت تلك الفترة أكبر عملية استغلال وتوظيف للدين في السياسة ومصالح الممالك والاقطاع، حيث سيق الألوف كالأغنام وزج بهم في أتون تلك الحروب، بهرطقات البابوات والقساوسة حول اقتراب يوم القيامة وضرورة اقبال الناس على “الجهاد” المسيحي بالأنفس والأموال تقرباً إلى الله وغسلاً لذنوبهم . وبتحريض من رجال الدين قاد بطرس
“
الناسك” الحرب الصليبية الأولى في عام 1069 لاحتلال بيت المقدس . ثم دعا البابا إيجين الثالث للحملة الصليبية في عام 1145 التي قادها ملك فرنسا لويس السابع وملك ألمانيا كونراد الثالث وبمساعدة عدد من نبلاء أوروبا البارزين . تلتها الحرب الصليبية الثالثة في عام 1187 بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا وفيليب أوغست ملك فرنسا، أيضاً بدعوى استعادة بيت المقدس . ثم الحرب الصليبية الرابعة في عام ،
1202
والحرب الصليبية الخامسة في عام ،1213 والحرب الصليبية السادسة في عام ،1228 والحرب الصليبية السابعة في عام ،1248 وأخيراً الحرب الصليبية الثامنة في عام 1270
.
وجميعها كان رعاتها والمحرضون عليها وممولوها البابوات والكهنة، في حين كان قادتها ملوك وأمراء وأعيان أوروبا المؤتمرين بأوامر الكنيسة
.
كان ذلك في فترة ما قبل إنشاء الدول القومية ومأسستها عبر افتكاكها من قبضة الكنيسة، وإقامة حياة مدنية قوامها حرية الفرد وحماية حقوقه الشخصية والمدنية في إطار دولة القانون التي ينظم العقد الاجتماعي العلاقة بينها كمؤسسة إدارية كلية وبين أفراد المجتمع . بيد أنه ورغم هذا التأسيس المتين والمبكر لنقل مجتمعات الدول القومية الفتية في أوروبا من التوحش إلى التحضر والتمدين، إلا أنه ما كاد القرن العشرين يطوي عشريته الأولى حتى كان العالم على موعد مع جرائم حرب جديدة ارتكبت بدوافع دينية وعصبية قومية لا تقل فظاعة عن سابقاتها من الحروب الدينية، ونعني بذلك مذابح الأرمن التي بدأ مسلسلها السلطان العثماني عبدالحميد بموجتها الأولى في الفترة من عام 1894 حتى عام ،1896 تلتها الموجة الثانية في عام ،1902 والثالثة التي تلت خلع السلطان عبدالحميد في عام 1909 على أيدي شباب قوميين أتراك هم من تولوا التنكيل بالأرمن وارتكاب المجزرة الأشهر بحقهم في عام ،1915 والتي توالت حتى أعوام
1920 – 1922 .
وتشير المصادر المختلفة إلى أن نحو مليون من الأرمن قد قتلوا في هذه المجازر، بينما تذكر المصادر الأرمنية أن عددهم يربو على المليون ونصف المليون
.
ولم تقتصر هذه المجازر على الأرمن وحدهم، إنما شملت الأغيار الدينيين، حيث قتل لأسباب دينية مئات الآلاف من الأرمن واليونانيين والآشوريين
.
ولم تقفل مجازر الأرمن ملف الحروب المؤسسة على استئصال الآخر الديني في أوروبا
.
فلقد نال اليهود في أوروبا قسطهم من هذه الجرائم بعد صعود النازية لسدة الحكم في ألمانيا في عام 1933 . حيث تحولت أيديولوجيا النازية الإقصائية القائمة على التفوق العرقي للجنس الآري واحتقار الأعراق والملل وأصحاب الأديان والمذاهب الأخرى، إلى وحش كاسر بطش بعديد الأقوام والجماعات ومنها يهود أوروبا . ولكن سرعان ما تحول هؤلاء اليهود بدفع من ذات الأيديولوجيا العنصرية ولكن بنكهة أخرى أسموها الصهيونية، والتي تبنتها وأخذت بها منظماتهم الإرهابية، إلى نازيين هم أنفسهم، وتقمصوا الأدوار التي قام بها هتلر وعصابته النازية، وزادوا عليها بمكرهم وخبثهم حين
قدموا من أقاصي الديار ليغتصبوا ويحتلوا أرض فلسطين ويقيموا عليها مستعمراتهم ويذيقوا شعبها العذابات والمرارات التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ المعاصر، إن من حيث المدى الزمني (أزيد من 66 عاماً)، أو من حيث وسائل وأساليب وبشاعة القتل والحرمان (حصاراً ممتداً) والإذلال الجماعي
.
حرر في 27 فبراير 2015