وسط كرنفال العولمة الذي تبارى المتبارون في تمجيده، تناسى الكثيرون أن العولمة بين أشياء أخرى كثيرة تعولمها، «تعولم» الفقر أيضاً. صحيح أن القسمة الضيزى القائمة بين عالم غني يسبح في الثراء وبين محيطات واسعة من الفقر والعوز، لا بل والمجاعة في معناها الحرفي التي تودي بحياة آلاف البشر لأنهم لا يجدون ما يسد الرمق، لم تنشأ مع العولمة في صورتها الراهنة. لكن هذه العولمة أعطت أبعاداً غير مسبوقة على ظاهرة الفقر، هي التي ترافق صعودها على خلفية الإفقار المتزايد لقطاعات شعبية واسعة، بما في ذلك الفئات الوسطى، وصودرت الكثير من الضمانات الاجتماعية التي كانت الرأسمالية قد اضطرت إليها مُكرهةً في مراحل سابقة تحت ضغوط نضالات الحركتين النقابية والديمقراطية، خاصة في البلدان المتطورة.
هُلل للنظام العالمي الجديد الذي أعلن عنه الرئيس جورج بوش الأب حين كانت قواته قد أحكمت سيطرتها على منابع النفط في الخليج، فيما كان الاتحاد السوفييتي قد لفظ أنفاسه الأخيرة، وقُدمت العولمة في أبهى وأبهج صورها. حينها تبارت الأقلام والشاشات في إظهار مفاتن ومحاسن العصر الجديد، الذي سيضع حداً للأنظمة الشمولية، وسيعمم الرفاه على العالم كله.
قالوا لنا إن التاريخ بلغ نهايته، بعد العولمة لم يعد أمامنا مستقبل آخر نذهب إليه. من يحلم بالمستقبل فعليه أن يرفع الرايات البيض استسلاماً، فعهد الأحلام الكبرى وأفكار التغيير قد ولى من دون رجعة، وسادت ثقافة ملغومة أطلق عليها ثقافة المراجعة، بموجبها تخلى الكثيرون عن أحلامهم، والتحقوا بالعربة الأخيرة في القطار الذي تحدث عنه فرانسيس فوكاياما في كتابه الشهير عن “نهاية التاريخ وخاتم البشر”.
كان فوكاياما قد حذّر هؤلاء من أن وصول هذه العربة الأخيرة قد يعرقله بعض قطاع الطرق، ولكنها في النهاية لاحقة ببقية عربات القطار إلى جنة الليبرالية الموعودة. نحو عقدين فقط مرا على هذا الكرنفال، علينا أن نجول بأعيننا حول العالم لنرى أن هذا العالم يزداد فقراً كلما زاد ثراء القلة الذين أحكموا الخناق على ثرواته.
أكثر من مليار إنسان ما زالوا يعيشون على دولار واحد باليوم، كما أن أغنى 500 شخص في العالم يملكون دخلاً يزيد على دخل 416 مليون إنسان مجتمعين، ويصنف 800 مليون إنسان في العالم كجوعى. وتستحوذ بلدان الشمال والتي تبلغ خمس البشرية على أربعة أخماس الموارد والعوائد، بينما تتوزع النسبة الباقية على البلدان الفقيرة التي تنعدم فيها فرص التبادل التجاري العادل في ظل سياسة العولمة الاقتصادية واتفاقيات منظمة التجارة العالمية. وحسب وثيقة عرفت باسم تقرير الشباب العالمي فإن الشباب بين الأعمار 15-24 يشكلون ربع سكان العالم، ولكن نصفهم عاطلون عن العمل.
تصبح هذه الأرقام أكثر خطورة عندما نأخذ بعين الاعتبار الأبعاد المعقدة المتعددة للفقر: الجوع وسوء التغذية، وعدم المقدرة على الحصول على تعليم وخدمات أساسية أخرى، وزيادة الأمراض، والتشرد أو عدم توفر المسكن الملائم، وعدم توفر البيئات الآمنة، وعدم المشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية والاجتماعية.
يلفت النظر في بعض التقارير التي تعدها شبكة المنظمات العربية للتنمية توقفها أمام ظاهرة الفقر في بلداننا العربية، والجهود المبذولة في سبيل تقليص الفجوة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع في غالبية هذه البلدان. وفي هذه الفجوة بالذات يكمن السبب الرئيس في تلاشي الفئات الوسطى التي كانت رافعة للتقدم والفكر المستنير في مراحل تاريخية سابقة، يوم أسهم أبناء هذه الطبقة ممن تلقوا التعليم الجيد، وتمتعوا بمداخيل مستقرة وجيدة في صوغ الوعي الجديد في مجتمعاتنا.
أمور كثيرة تغيرت في كافة بلداننا العربية، فقد تراكمت الثروات في أيدي فئات محدودة العدد من الأغنياء، وتعمم الفقر بحيث أصبح ظاهرة اجتماعية خطرة، ترتب عليها الكثير من أشكال الوعي المزيف، والنزوع نحو الانغلاق. وفقدت المدينة العربية طابعها الديناميكي المنتج للحداثة والمعرفة والفنون الراقية، أمام التزييف الواسع جراء توسعها العشوائي بسبب نزوح فقراء الأقاليم والأرياف اليها تحت ضغط الضائقة الاقتصادية.
يبدو هدف مكافحة الفقر، كما يفهم من بعض التقارير التي أشرت اليها أعلاه، قرين ما تدعو اليه المنظمات الدولية المعنية بالأمر، برفع مستوى النمو في البلدان الفقيرة، وضمنها عالمنا العربي، في ما يشبه الارتباط الشرطي، فما أن يتحسن هذا النمو، حتى تنحسر مساحة الفقر. وفي هذا الكثير من التضليل، لأن تقارير اقتصادية كثيرة تتحدث عن ارتفاع معدلات النمو، دون أن يقترن ذلك بخطط جدية في اعادة توزيع الثروات بشكل عادل من أجل مواجهة الفقر.
ان الولع بالمؤشرات الكمية يحجب الجوهر الاجتماعي لظاهرة بحجم ظاهرة الفقر، خاصة وان من يرسمون السياسات الاقتصادية على المستوى العالمي اليوم، التي تصدر وصفاتها الينا، مأخوذون بنموذج الليبرالية الجديدة، الذي رغم الخضة التي أصابته بالأزمة المالية العالمية، ما زال قادراً على اعادة ترويج نفسه، من خلال هيمنة دعاته ومريديه على اقتصاد العالم.
حين يجري التفكير في اعادة هيكلة اقتصادات البلدان النامية، فان الأنظار تتوجه نحو ما تدعى بيوتات الخبرة، والى وصفات البنك الدولي ونظيره صندوق النقد، والبند الأول في هذه الوصفة هو عادة رفع الدعم الحكومي عن المواد الحيوية، وتجربة العديد من هذه البلدان تشير الى كوارث اجتماعية عديدة جرتها هذه الوصفات، التي لم تفعل سوى زيادة الفقراء فقراً، والأغنياء ثراء.
آثار الفقر لا تنحصر فقط على الصعيد الاجتماعي والمعيشي، وإنما تطال الجانب السياسي أيضاً، بما في ذلك تأثيرها على قضايا البناء الديمقراطي، ولو أخذنا بلداً ديمقراطياً نموذجياً كالهند، مثلاً، سنجد أن حوالي نصف سكان البلد ما زالوا أميين، ومع ذلك ففي الهند اليوم أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة يومية، ونحو من عشرة آلاف مجلة أسبوعية، وقد ارتفع توزيع صحافتها اليومية من 3.6 مليون نسخة في عام 1958 إلى ما يفوق الثلاثين مليون في الوقت الراهن.
هذه بعض إحصاءات يقدمها الدكتور جورج طرابيشي في إطار حديثه عن مناعة الديمقراطية في الهند، متخذا من تطور الصحافة وقوة نفوذها واتساع تأثيرها دليلا من أدلة هذه المناعة، في نطاق عرضه لكتاب حول الديمقراطية في الهند، ملاحظاً أنها أكبر ديمقراطية في العالم، حتى بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تزيد الهند بالحجم السكاني ثلاثة أضعاف ونصف الضعف على عدد سكان الولايات المتحدة.
ديمقراطية الهند هي النموذج الوحيد الثابت في البلدان النامية، رغم أن العديد من هذه البلدان شهدت تجارب متفرقة من الممارسة الديمقراطية، لكنها غالبا ما تكون عابرة ومتقطعة وعرضة للتقلبات. أما ديمقراطية الهند فقد ظلت مستمرة من دون انقطاع منذ عام1947 ، عام استقلال الهند، بل ربما قبل ذلك بكثير، إذا ما اعتبرنا عام 1920 الذي شهدت فيه الهند انتخاباتها العامة الأولى في ظل الاحتلال البريطاني تاريخ بداية لهذه الممارسة .
لكن ما يلفت النظر في نطاق الحديث عن معوقات الديمقراطية في الهند، هو ذلك الإلحاح الذي يظهره المؤلف، بين عوامل عدة، على عامل الفقر، ذلك بأن ما نسبته 38% من سكان الهند يعيشون تحت عتبة خط الفقر، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن آفة الأمية تختار ضحاياها من بين الفقراء بالدرجة الأولى، فإن العقبة تغدو مزدوجة.
ورغم أن هناك معطيات إحصائية حديثة، تذهب إلى انه من بين المليار نسمة الذين يشكلون سكان الهند اليوم يبلغ عدد من يمكن أن نعدهم في قوام الطبقة الوسطى نحو مائتين وخمسين مليون نسمة، أي بالضبط ربع السكان، وبالتالي علينا ألا نبدي اندهاشاً كبيراً حين نرى الهند تحقق معدلات النمو الكبيرة التي دفعت بها إلى مصاف الدول الأكثر نمواً في العالم في السنوات الأخيرة. والطبقة الوسطى وحدها ليست سبباً كافياً لتحقيق النهضة، ولكن وجودها المتين والراسخ في أي مجتمع يضمن له التطور المستقر، ويحميه من الهزات الاجتماعية الكبيرة، هذا فضلا عن انه يوفر القاعدة البشرية المؤهلة لأن تكون مرتكزاً مكيناً للعطاء في مجالات التنمية والإبداع والثقافة والتقدم الاجتماعي، لأن هذه الشريحة هي الأقدر، من بين شرائح المجتمع، على أن تدفع بفكرة الحداثة إلى الأمام.
الملاحظة التي ينقلها طرابيشي تذكر بملاحظة مشابهة عن معوقات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، فرغم انه لم تعد تحوم شكوك حول مستقبل الديمقراطية في هذه القارة، إلا أن هذه الديمقراطية تعاني من أمراض عدة بينها إخفاقها في الجمع بين حقوق المواطنة ومنطق السوق، حيث تزداد حدة التفاوتات الطبقية والاجتماعية، وخلافا لما جرى في أوروبا، حيث تقدمت الديمقراطية بتقدم الطبقة الوسطى، فإن التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية ابتداء من الثمانينات اقترن بتعميم متزايد للفقر، وبتقلص حجم الفئات الوسطى.
هذا الإلحاح على الفقر بوصفه مضادا للديمقراطية أمر يعنينا في عالمنا العربي كذلك. فللديمقراطية وجهان، أحدهما سياسي يتصل بالحريات وبالمشاركة السياسية وبفعالية مؤسسات المجتمع المدني، وآخر لا يقل أهمية: اجتماعي يتصل بضمان العدالة الاجتماعية والتوزيع المتوازن للثروات، والنهوض بمستوى الشرائح الاجتماعية المعدمة ومحدودة الدخل، وتأمين ضمانات العيش الحر الكريم لها.
ولن تمضي عملية التحول الديمقراطي قدما في البلدان التي تنشد هذا التحول، إذا ظلت الأوضاع المعيشية لهذه الشرائح تتفاقم في التردي، وإذا استمرت مظاهر التمييز والإفقار، وسوء الخدمات الضرورية للمواطنين في مجالات السكن والعمل والضمانات الاجتماعية، وظل الاستقطاب الحاد بين الفقر والغنى، وهشاشة الفئات الوسطى ومحدودية تأثيرها، وهي الفئات التي عرفت على الدوام بصفتها مرتكزا اجتماعيا للتحول الديمقراطي في أي مجتمع.