أقل من شهر هو الفاصل الزمني بين مجزرة صحيفة «شارلي إيبدو» الباريسية نهاية الأسبوع الأول من يناير/ كانون الثاني الماضي، وبين إعلان التنظيم الإرهابي ذاته «داعش» إحراق الأسير الطيار الاردني معاذ الكساسبة في أوائل فبراير/ شباط الجاري، موثقةً إياه بالفيديو الذي جرى تداوله عبر الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي في مختلف أرجاء المعمورة. ومع أن الحادث الثاني لم يرح ضحيته سوى شخص واحد قضى نحبه محروقاً متفحماً، إلا أن هول هذه الجريمة وشدة فظاعتها التي تقشعر لها الأبدان، جعلت منه (داعش) في وقع الصدمة يرقى إلى حجم ردود الفعل العالمية الواسعة المنددة وبما يوازي حجم ردود الفعل العالمية على الحادث الأول الذي راح ضحيته 12 شخصاً غالبيتهم من صحافيي الصحيفة وخمسة من الأبرياء والقتلة على خلفية تداعيات ملاحقتهم أمنياً بعد يومين من الحادث.
ولربما طغت ردود الفعل والمواقف العالمية تجاه جريمة حرق الكساسبة على ردود الفعل والجدل الفرنسي والعالمي حول جريمة صحيفة «شارلي إيبدو»، على الرغم من أن هذا الحادث قارنه بعض المحللين في خطورته وردود الأفعال عليه بهجمات سبتمبر 2001 الإرهابية، والتي راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف شخص إثر ضرب القاعدة برجي التجارة في نيويورك.
وفي حين حظي الحدث الباريسي بحملة عالمية ودولية من التعاطف مع الضحايا ومع فرنسا حكومةً وشعباً، ووصلت ذروتها بمظاهرة باريس المليونية التي شارك في طليعتها لفيف من زعماء العالم من بينهم العاهل الأردني الذي نُكبت بلاده بصدمة بعدئذ بمقتل طيارها المقتول حرقاً، بل وحظيت لأول مرة بتعاطف واسع من العرب والمسلمين المعتدلين الذين استنكروا الحادث رغم تحفظهم واستهجانهم لرسوم شارلي ايبدو التي اعتبروها اساءة لنبيهم (ص)، فإن جريمة حرق الكساسبة لم تحظ بحملة عالمية من التعاطف مع الضحية ومع الأردن والعرب عموماً والذين يواجهون نفس العدو الوحشي.
وإذا كان يمكن فهم غياب ردود الفعل الجماهيرية عن العواصم العربية الغارقة في الفوضى والحروب الأهلية والتخبط في أزماتها وصراعاتها السياسية المحتدمة، فإن ما لا يمكن فهمه هذا الغياب الكلي من التعاطف العالمي مع الأردن عائلةً وشعباً وحكومةً، اللهم إلا استنكارات إعلامية وحكومية ومدنية من هنا ومن هناك.
الأكثر مدعاةً للدهشة هي الحملة الجديدة من الكراهية والعنصرية التي تجري غداة حادث «شارلي إيبدو» في فرنسا الدول الغربية عموماً ضد الإسلام والعرب والمسلمين الذين عاشوا بين ظهرانيهم عقوداً طويلة، وكسب أغلبهم جنسياتها ولغاتها وأصبحوا مكوّناً أساسياً من مكوّنات شعوبها، أياً تكن نسبته في النسيج الوطني في كل دولة على حدة. هذا في الوقت الذي بلغ فيه ضحايا العرب والمسلمين على يد العدو الارهابي ذاته (القاعدة وداعش وأخواتها) أضعافاً مضاعفة من أعداد الضحايا الأوروبيين والغربيين، ومازال الحبل على الجرار.
ولو أن الشعوب الغربية، وعلى الأخص نخبها السياسية والمثقفة، تتمتع بحد أدنى معقول من الوعي بملابسات الظروف التاريخية وتأثيراتها الاجتماعية التي تركتها الحقبة الاستعمارية الغربية على تطور العرب الحضاري، حيث عمل الاستعمار على دفع العرب إلى المزيد من التخلف واستنزف مقدراتها وثرواتها الطبيعية بالنهب، وحيث مفاعيل تلك التأثيرات المديدة مستمرة إلى يومنا، وهو الذي صادر كل حقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية، بما في ذلك حقها في التطور الديمقراطي الكامل الحر المستقل، أو في أحسن الأحوال سمح بالتطور الديمقراطي المقيد والمشّوه، كما فعلت بريطانيا في مصر والعراق… نقول: لو أن الشعوب الغربية ونخبها وعت لهذه الإشكالية المعقدة التي مرت شعوبنا العربية لأدركت أن أنظمتها الاستعمارية إنما تتحمل جزءاً كبيراً، من المسئولية أخلاقياً وأدبياً، لظهور نبتة الإرهاب الشيطانية في صحارينا العربية. هذه الشجرة الشوكية بثمارها المرة لم تنبت فجأة أو تهبط على عالمنا العربي من فراغ، وإلا فلمَ لم تظهر مثل هذه النبتة في أراضي أوروبا ذات التطور الديمقراطي الكبير أو في البلدان التي لم تمر بظروف تاريخية واجتماعية بالغة التعقيد كالتي مرت بها الأقطار العربية جمعاء تقريباً؟ إلا أن دور الاستعمار والأنظمة الدكتاتورية، كعاملين رئيسيين في خلق الإرهاب في المنطقة، لا ينفي بطبيعة الحال العوامل الأخرى التي تضافرت معه.
الأخطر فإن الاستعمار الغربي عمل على توريث وزرع واحد من أخطر أشكال الاستعمار الحديث في قلب الوطن العربي، وهو الدولة الصهيونية في فلسطين وتشريد معظم شعبها، ومازالت هذه الدولة السرطانية تمثل منذ ستة عقود، مصدراً دائماً لإثارة الاضطرابات والحروب وعدم الاستقرار في المنطقة، مسنودةً بما تتمتع به من أشكال الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري من الولايات المتحدة والدول الغربية. ولو أن الأقطار العربية قُدر لها تاريخياً ألا تتعرض لذلك الظلم التاريخي من الاستعمار القديم والجديد، أو في أدنى الفروض لو لم تقم بعرقلة تطورها التاريخي ومساندة الأنظمة الشمولية بالأسلحة والدعم السياسي لقمع حركاتها الشعبية المطالبة بالإصلاحات الديمقراطية، فهل كان للقاعدة أو «داعش» وأخواتها من الجماعات الإرهابية لتظهر أصلا؟
ومن المضحك المبكي أن كلا الطرفين اليوم، الدول الأوروبية الاستعمارية، والأنظمة المتحالفة معها، باتا يشكوان إرهاب «داعش»، وكأن لا صلة لهما من قريب أو بعيد بصناعة الارهاب في المنطقة، وتمهيد التربة والمناخ لنمو بذرته، ومن نتاجها ولادة هذه التنظيمات، منذ تمويل أميركا وحلفائها للمجاهدين وتعبئتهم دينياً ونفسياً على تأدية فريضة الجهاد ضد الاحتلال السوفياتي الكافر في أفغانستان كفريضة مقدمة على الجهاد من أجل تحرير بيت المقدس، وبتشجيع ودعم مالي وعسكري غير محدود، وبما يخدم في المقام الأول المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، في سياق حربها الباردة مع السوفيات، وإلهاء شباب المنطقة عن قضاياهم الوطنية والداخلية وقضية فلسطين والمسجد الأقصى وتوجيههم إلى افغانستان. ولم يكن الطرفان الأميركي والخليجي حينها مبالياً بالنظام الذي سيحل محل النظام اليساري الموالي للسوفيات في أفغانستان ولا بما سيفعله المجاهدون الخليجيون والعرب الذين اكتسبوا أعظم خبرة قتالية بعد عودتهم إلى بلدانهم، ولتبدأ منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي فصول جديدة من الكوارث والمآسي الدامية مازالت تتوالى على أيدي «القاعدة» والمنظمات التي انشقت عنه، وهو الذي علّمته بعض الأنظمة بالمنطقة بالشراكة مع حليفها الأميركي، الرماية ضد السوفيات، فلما اشتد ساعده رماها، بعدما انقلب السحر على الساحر، وأخذ يوجه ضرباته الإرهابية يميناً وشمالاً حتى استفحل خطره وباتت سيطرة السحرة عليه أشبه بالمعجزة.
صحيفة الوسط البحرينية – 18 فبراير 2015م