ضمن احتفالات المنبر التقدمي بالذكرى الستين لتأسيس جبهة التحرير الوطني البحرانية أقام التقدمي حلقة حوارية لاعضاءه حول مستقبل اليسار في البحرين والخليج العربي. كان المتحدثين فيها الأمين العام السابق للتقدمي الدكتور حسن مدن ونائب الأمين العام عبدالجليل النعيمي وعضو التيار التقدمي الكويتي أحمد الديين.
تناولت الحلقة النقاشية تحليل لليسار في الوضع الراهن بالنسبة للبحرين والوطن العربي والتحديات التي يواجهها ثم تطرقت الحوارية إلى الآفاق المنظورة لإعادة الحيوية إلى اليسار وتعزيز تواجده.
وفيما يلي ورقة الرفيق د. حسن مدن الأمين العام السابق “للتقدمي” المقدمة في الحلقة الحوارية:
مسببات انحسار نفوذ اليسار
( أفكار للتفكر)
حسن مدن
انحسار اليسار .. عودة الماركسية
صحيح أن دور اليسار ينحسر بالقياس لمراحل زمنية سابقة، سواء على الصعيد العالمي أو على صعيد منطقتنا، لكن المفارقة هو أن النظرية الماركسية ذاتها تعود بقوة رغم الكلام الكثير الذي قيل عن نهايتها.
من يتحدث عن هذه العودة لماركس ليس اليساريين ولا “بقاياهم” كما يصفهم خصومهم، وإنما عتاة الرأسماليين، والأكاديميون المستقلون الرصينون الذين لم يكونوا يوماً أعضاء في أحزاب يسارية، بل لعلهم على خصومة مع هذه الأحزاب.
وفيما يتبارى بعض الماركسيين السابقين الذين شقت أصواتهم عنان السماء وهم يهتفون بها في أزمنة صعودها، في إظهار براءتهم منها، وسخريتهم من ماضيهم، وندمهم على ما أنفقوه من سنوات في قناعاتهم السابقة، متبارزين في خلع الجلد القديم، تارةً بارتداء القبعة الليبرالية الأنيقة، وتارةً أخرى بارتداء العمامة الاسلاموية، فان الأذكياء من الرأسماليين ومن أهل اليمين يعرفون حق المعرفة ما الذي تعنيه أفكار ماركس في عالم اليوم.
في استطلاع للرأي موّلته شركة التلفزيون “زيد دي اف” لمعرفة أهم الشخصيات الألمانية في التاريخ، صوت أكثر من خمسمائة ألف مشاهد لماركس؛ فحل ثالثاً في التصنيف العام وأولاً في فئة “الأهميات الحالية”، فيما صوّت مستمعو برنامج “في وقتنا” على إذاعة “بي بي سي٤” لماركس بوصفه فيلسوفهم الأعظم. المفكّر جاك اتالي قال: “الرأسماليون وللمفارقة هم من يعيدون اكتشاف ماركس أكثر من غيرهم”. وتحدث عن دهشته عندما قال له رجل الأعمال والسياسي الليبرالي جورج سوروس “كنت اقرأ ماركس للتو وهناك أشياء باهرة كثيرة يقولها”.
المؤرخ الأمريكي هوارد زن كتب نصاً مسرحياً إسمه “ماركس في أمريكا”. الكاتب اللبناني الراحل عصام محفوظ نقل هذا النص الجميل من ترجمته الفرنسية إلى اللغة العربية، وهوارد زن، هو الآخر، لم يكن ماركسياً، واللافت أيضاً أن عصام محفوظ يُشير في مقدمة الترجمة العربية إلى أن الناشر الفرنسي قال: إن كون النص تُرجم ونُشر في فرنسا على يد غير الماركسيين يؤكد أن المسرحية تُخاطب وجدان غالبية المواطنين الذين هُم في طريق الاستعباد الكامل للتوحش الرأسمالي. أما هوارد زن نفسه فيقول: انه بهذا العمل المسرحي أراد أن يُنقذ ماركس من التشويه الذي لحق به من قبل المحللين والمنظرين الذين شاءوا توحيد الماركسية بالأنظمة القمعية، وأن يجعل ماركس يُبدي غضبه إزاء الذين استغلوا فكره لغير الغاية منه. تتخيل المسرحية أن ماركس قد بُعث اليوم من قبره وذهب إلى أمريكا بالذات، موقع الرأسمالية المعاصرة الأول، ليجد أن الصحف الصادرة تؤكد أن أفكاره قد ماتت، مُلاحظاً أن هذا الأمر يتكرر منذ أكثر من مائة سنة، قائلا: “ألا تتساءلون معي لماذا يضطر هؤلاء المهرجون لتكرار إعلان موتي، طالما كُنت قد مت بالنسبة لهم؟!”.
في المسرحية يُخاطب ماركس الجمهور قائلاً: “صُحفكم تقول إن أفكاري قد ماتت، لكن اسمعوا معي هذا الخبر المنشور في صحيفة اليوم: أقل من خمسمائة شخص يتداولون حوالي مليارين من الدولارات كأسهمٍ تجارية، هل هؤلاء أفضل من الآخرين أو أكثر نبلاً، أم لأنهم يكدون في العمل أكثر من غيرهم؟ هل هم أكثر نفعاً للمجتمع من أم لثلاثة أطفال لا تقوى على دفع فاتورة التدفئة في الشتاء؟ ألم أقل لكم قبل قرن ونصف القرن، أن الرأسمالية سوف تُضاعف الثروة العامة، لكنها ستحصر هذه الثروة أكثر فأكثر بأيدٍ أقل فأقل”.
خصم الماركسية اللدود جاك دريدا أيقن في نهاية حياته أن لا مناص من التصالح مع أفكار ماركس، ففاجأ الجميع بكتابه الشهير: “أطياف ماركس”، مؤكدا أن العودة لماركس ضرورية لمواجهة التوحش الرأسمالي. المنصفون من المحللين يدركون أن ما قاله ماركس في القرن التاسع عشر، وهو يحلل الرأسمالية، تتبدى صحته بسطوع في الأزمة المالية العالمية الأخيرة التي تحولت إلى انهيار اقتصادي، مؤكدة فشل أيديولوجيا السوق الحرة العالمية غير المنضبطة، وتجبر حتى حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات عامة منسية منذ الثلاثينيات. الضغوط السياسية تُضعف من الآن التزام حكومات الاقتصاد الليبرالي الجديد نحو عولمة غير مراقبة، غير محدودة وغير منظمة.
لا
بأس من “بحرنة” الموضوع، الكاتب حافظ الشيخ الذي لا يجمعه كبير ود مع الماركسية، كتب منذ سنوات قليلة قائلاً: “بالتأكيد أنّ كارل ماركس هو أدق مَنْ قدّم نقداً منهجيا للرأسمالية وأصولها وآثارها، وأيضاً لا شكّ أن الماركسيّة، على جُملة مناهجها واتجاهاتها ومذاهبها، هي في العصر الحديث أدقّ نقدٍ قد ظهر للرأسمالية”. وحافظ الشيخ إذ انتقد التطبيقات العملية للماركسية في الاتحاد السوفيتي وسواه قال: “أنّ فاشلاً في الحياة وبالغ الحُمق هو فقط مَنْ يقول أن الماركسية قد اندثرت، فهي فكرة خصيبة، شديدة الخصوبة، لا تزال تتوالد وتتناسل، لا في المستوى الأكاديمي وحسبُ والنظري، ولكنْ أيضاً في المستوى الآدمي البَشَري الحيّ، وهي فوق ذلك لا تزال في عديد من دول العالم الثالث تقارع الأنظمة الرأسمالية الوكالية، وتُنازلها في شجاعة تاريخية فريدة”.
في وصف وقع الأفكار الاشتراكية تقول الجملة الأولى لـ “المانفيستو” الصادر في منتصف القرن التاسع عشر، وبالعبارات البليغة لماركس: “شبح يطوف في أوروبا اتحدت في وجهه قوى أوروبا القديمة كلها: البابا والقيصر، المحافظون الفرنسيون والبوليس الألماني”. وبعد نحو مائة وسبعين عاماً، فان شبح هذه الأفكار، وهي تخرج من تحت الرماد نافضةً عنها غبار الجمود، ما انفك يُقلق كل القوى التي تستحوذ على السلطات والثروات.
أكاديمي غربي بارز يقول: بالنسبة إلى أي شخص مهتم في الأفكار، أكان طالباً جامعياً أم لا، من الواضح تماماً أن ماركس سيظل واحداً من أعظم العقول الفلسفية والمحللين الاقتصاديين في القرن التاسع عشر. من المهم أيضاً قراءة ماركس لأنه لا يمكن فهم العالم الذي نعيش فيه اليوم من دون أثر كتاباته في عالم اليوم. وأخيراً، يجب أن نقرأه لأنّ العالم، كما كتب بنفسه، لا يمكن أن يتغير بشكل فعّال إلا إذا فُهم. ما فعله الفلاسفة حتى الآن، يقول ماركس في إحدى أطروحاته عن فيورباخ، هو تفسير العالم، فيما المطلوب هو تغييره.
إذا كانت الماركسية كفكرة تحيا وتحضر بهذه القوة، لماذا يدور الحديث عن انحسار اليسار، وهو انحسار حقيقي لا سبيل لنكرانه.
يمكن تقسيم الأسباب المؤدية لهذا الانحسار في خانتين، واحدة موضوعية، عملية، وأخرى فكرية – نظرية تتصل بتجديد الفكر الماركسي ليوائم المستجدات.
نجد في خانة العوامل الموضوعية تجليها التاريخي الصاعق في تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الأنظمة الاشتراكية في شرق أوروبا، والانتصار الذي حققته الرأسمالية العالمية بفرض سياسة القطب الأوحد في العالم، وما أدى اليه ذلك من انحسار السياسات المستقلة للعديد من الدول النامية، وتراجع دور القوى التقدمية في مناطق مختلفة في العالم أبرزها منطقتنا، لأن التعميم عادة منبوذة، فالتطورات السياسية في العقدين الماضيين في أمريكا اللاتينية تظهر العكس.
وإذا كان صحيحاً أن الحرب الباردة التي فرضتها الامبريالية على الاتحاد السوفيتي ومحاصرته اقتصادياً واستنزافه في سباق تسلح مضن، كان لها دور كبير، وربما حاسم، في المالآت التي شهدناها منذ ربع قرن، ألا أن ذلك لا يعفينا من البحث في أوجه الخلل في الفكر والممارسة التي كانت، بدورها، أحد أسباب ذلك.
ولو تحدثنا عن الخانة النظرية – الفكرية فان المتتبع لخطاب التيارات السياسية المختلفة في العالم العربي، بما فيها تيارنا اليساري، سيواجه بحقيقة انعدام الحيوية الفكرية وغياب روح الجدل والنقاش والتساؤل، والميل للركون إلى البديهيات والمسلمات واجترار ما هو ما معروف، وإعادة إثبات ما سبق أن أثبت، وليس السعي لطرح فرضيات جديدة واحتمالات جديدة وأفكار جديدة. بل أن الخطاب السائد هو خطاب السياسة اليومية التي تلهث هذه التيارات وراء تفاصيلها وتجير الخطاب الفكري للعارض اليومي، وليس العكس أي أن توظف هذا الخطاب في فهم السياسة اليومية وإدارتها.
قليلة هي المراجعات الشجاعة الصريحة للسياسات والتكتيكات السابقة، ونادر هو الحوار الفكري الذي يثير الأسئلة ويجادل ويطرح على بساط البحث الأمور برغبة فهمها وتحليلها. نحن ما زلنا بعيدين عن نتاجات ماركس وسواه من رموز الفكر اليساري. بمعنى كم عدد الذين قرأوا “رأس المال” لكارل ماركس، وإذا كانوا قد قرأوه إلى أي مدى فهموه، وهو العمل الذي قال عنه لينين انه لا يمكن قراءته دون قراءة هيغل أولاً. وما يقال عن ماركس يقال عن أعمال لينين وروزا لوكسمبورغ وسجالاتها مع لينين وغرامشي الذي يعاد له الاعتبار على نطاق واسع اليوم، هو الذي نقل النقاش الى القضايا الواقعة في مجال البنية الفوقية حسب التقسيم الماركسي بين بنيتين تحتية وفوقية الغلبة فيها للبنية المادية. صحيح أن الاحتفاء يتم بأطروحاته حول المجتمع المدني وفي الدراسات الثقافية، لكن هناك الجانب النضالي والتكتيكي في الممارسة الثورية، وبخاصة أطروحته حول حرب المواقع.
يضاف إلى هذا كله، علينا إدراك انه لم يكن بوسع نظرية ماركس في الظرف التاريخي الذي عاش فيه أن تحيط بكافة الظواهر، وتقدم الأجوبة على كل الأسئلة. الباحث سعد محمد رحيم قال في كتابه “استعادة ماركس”، “ان ماركس ترك نظرية ناقصة لا لأنه لم يستطع اكمالها، بل لأنه كان محكوما بشرطه البيولوجي، حتمية الموت، ان حياة فرد واحد قصيرة جدا اذا ما كان يضطلع بمهمة فكرية ضخمة كما كان شأن ماركس”.
في هذا المجال علينا أن نطرح بعض الأسئلة التي كانت موضع نقاش في الأوساط الماركسية في السنوات الأخيرة، وبينها العلاقة بين النظرية الماركسية والمنهج الماركسي، بالمناسبة فان ماركس نفسه كان من استشهد بإعجاب بمقولة غوتا: النظرية رمادية، أما شجرة الحياة فخضراء، وفي هذا ما يشير أن النظرية بحاجة لأن تغتني بتطورات الحياة وبالاكتشافات العلمية، لا أن تنغلق على نفسها فتتحول إلى مذهب جامد، لا يختلف عن المذاهب الدينية.
تطور العلوم والاكتشافات العلمية تقتضي إغناء النظرية بهذا الجديد، ومراجعة الأحكام التي تكون قد شاخت. علينا تذكر أن أنجلز في مقدمته للطبعات المتأخرة من البيان الشيوعي قد تحدث أن بعض أحكامه شاخت، وعلينا هنا تذكر كتاب لينين “المادية ومذهب النقد التجريبي”، الذي سعى فيه للبرهنة على حيوية الماركسية وقابليتها للتطورعلى ضوء الاكتشافات العلمية في مجال الفيزياء.هذا يظل صحيحاً في الماضي وفي الحاضر، فلولا “نسبية” اينشتاين ما كانت ستكون فيزياء نيوتن. وفي عصرنا الراهن نواجه قضايا العلاقة بين تدمير البيئة واستنزاف ثروات الطبيعة وعلاقتها باقتصاد السوق، ولم يكن الأمر بهذه الحدة في زمن ماركس، الذي ركز على تحليل استغلال الانسان لأخيه الانسان، دون ان يتمكن من الالتفاف إلى استغلال الراسمالية للطبيعة وثرواتها.
ومن القضايا المستجدة مسالة تعديل النظام الوراثي بإعداد حبوب محسنة، والتدخل في قوانين الطبيعة بمعرفة “دي. إن . إيه” ما يعني نفاذ البشرية إلى عمق حركة المادة وبلوغ ما يطلق عليه “التحوير الوراثي”، تأثير كل ذلك على تقسيم العمل .
من الأسئلة المهمة أيضاً، خاصة في بلداننا النامية والعربية، هو كيف نفهم العلاقة بين البنيتين التحتية والفوقية، بعيداً عن الفهم السطحي وربما المبتذل للأمر، بالقول أن كل ما يدور في البنية الفوقية، إنما هو انعكاس للبنية التحتية، دون رؤية العلاقة التفاعلية بين ما يجري في البنيتين، وكيف يمكن لما يدور في البنية الفوقية أن يلعب في بعض المراحل. دوراً حاسماً علينا هنا تذكر عبارة انجلز: “لا ماركس ولا أنا قلنا أن العامل الاقتصادي وحده من يحدد مسار التطور التاريخي، فالعوامل الأخرى لها تأثير لا يقل، جتى لو كان العامل الاقتصادي هو ما يحدد، في نهاية المطاف، التطور المادي.
من الأمثلة أيضاً دور الدولة والموقف منها، أخذا بعين الاعتبار أن العمر لم يتح لا لماركس ولا لانجلز تقديم نظرية متكاملة حول الدولة، ربما لأن الفكرة كانت في أن الدولة مرحلة تاريخية عابرة سيجري تحطيمها عبر ديكتاتورية البروليتاريا، لكن ماذا نقول عن بلدان لم تنشا فيها الدولة واذا نشأت، فان ذلك جرى، بصورة مشوهة، كما هو الحال في منطقتنا.
أخيراً علينا الوقوف أمام مفهوم البروليتاريا أو الطبقة العاملة، ففي ظل مجتمع ما بعد الصناعة وتحول قطاع الخدمات الى قطاع فاعل ومؤثر وربما اكثر حضورا من القطاعات الاخرى وفي ظل تزاوج الجوانب الانتاجية وغير الانتاجية في قطاع الخدمات لابد من التفكير بمفهوم جديد او تحديد طبقات جديدة ويطرح البعض. من أمثلة ذلك ما يطرحه بعض الماركسيين حول مفهوم العاملين بأجر دون تحديد ما اذا كان هؤلاء العاملون صناعيين أم غير ذلك. ماركس تحدث عن أن الاشتراكية ستحل التناقض بين المدينة والريف من جهة، ومن جهة اخرى ستحل التناقض بين بين العمل اليدوي والعمل الذهني، ولكن شيئاً من هذا يتحقق أو هو في طريقه للحل في بعض القطاعات الإنتاجية في ظل الراسمالية نفسها.
ومن القضايا المستجدة مسألة الملكية الفكرية، فمن يسيطر عليها يسيطر على الإنتاج، وهذه السيطرة معيقة لتعميم الثورة العلمية – التكنولوجية، فحسب ماركس قيمة البضاعة هي قيمة العمل المبذول فيها، لكن للعمل الفكري مقاييس خاصة به.
يضاف إلى ذلك اليوم أن السوسيولوجيا السياسية الجديدة تتحدث عن شيء آخر اسمه: الحركات الاجتماعية الجديدة التي تتخطى التأطير “الطبقي” الضيق لتشمل فئات الشباب والنساء وأنصار البيئة ومعارضي التسلح والعسكرة والنفايات النووية، أي عن طيفٍ واسع متنوع من القوى التي تريد للحياة على هذا الكوكب أن تكون أكثر إنسانية وتسامحاً ونبلاً، بديلاً لما لحق به من عنف وعسف وخراب.
وإحدى المفارقات في عصرنا هو أنه رغم احتدام التناقضات الاجتماعية والطبقية في المجتمعات الراسمالية المتقدمة ألا أن البرجوازية، بما تراكم لديها من خبرة وحنكة، ما زالت تنجح في استيعاب الكثير من هذه التناقضات، أو لعلها بالأحرى استطاعت أن تكسوها مظهراً جديداً مموهاً، لعله أقرب إلى ما دعاه “هربرت ماركيوز”: “إضفاء الطابع العقلاني على لا عقلانية الرأسمالية” حين جعل من عالم الشيء امتداد لعقل الإنسان وجسده، وتفنن في امتصاص أشكال الاحتجاج وتفريغ المشاعر المكبوتة عبر السماح لبعض مظاهرها بأن تفصح عن نفسها طالما كانت الراسمالية قادرة على السيطرة والتحكم فيها، لا بل تقديمها كدلالة على الليبرالية والتسامح.
عودة للعوامل الموضوعية من الأزمة، من التحديات الكبرى التي تواجه اليسار العربي اليوم، ونحن جزء منه، هو انفجار الهويات الفرعية، ومخاطر تشظي ما تعرف بالدولة القطرية العربية إلى مجموعات عرقية ومذهبية وطائفية، بعد أن كان مشروع هذه الدولة القطرية بعد الاستقلال هو بناء الدولة الوطنية التي تدمج في نسيجها الواحد مجموعة هويات تتنازل عن بعض صور تضامنها لتغليب الانتماء الوطني العام الذي يوحد الكل في بوتقة أو نسيج الوطن الواحد، وبطبيعة الحال فان اليسار كتيار وطني أولاً وأممي ثانياً كان يتوجه نحو الطبقات الاجتماعية التي تضمها كيانات – دول، حتى لو تعددت مكوناتها، بل بالعكس كان هذا اليسار هو الأكثر قدرة على إستيعاب هذا التنوع بحكم هويته الأممية، بالقياس للتيارات القومية مثلاً التي غلبت على سلوكها في فترات معينة ميول شوفينية، وبالقياس للتيارت الاسلاموية المعبرة في ظروف الانقسامات الطائفية والمذهبية عن طوائف ومذاهب لا عن شعوب.
بعض ما يجري حاليا تعود مسؤوليته إلى هذه الدولة القطرية ذاتها التي لم تسعَ لإقامة التوازن بين الهويات الفرعية داخلها على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، وبلورة هوية وطنية واحدة تكون بمثابة المظلة التي ينضوي تحتها الجميع، على العكس من ذلك فإن هذه الدولة كثيراً ما سعت إلى تغليب منظومات من التضامن الفرعي، كبديل للتضامن الكلي أو الجمعي، مؤسسة على الولاءات.
وما أن تضعف السلطة المركزية تحت ضغط الاحتلال الخارجي واستنفاذ شرعيتها الداخلية بعد أن تآكلت بالتدريج، حتى يعود المجتمع إلى صور التضامن الأولية السابقة لقيام الدولة، ولم يعد الحديث يدور عن إعادة بناء الوطن الذي يتساوى أبناؤه في كل شيء، وإنما عن توزيع حصص التمثيل الطائفي والسياسي، وتأمين طموحات كل فئة وطائفة على حدة، حتى لو تعارضت مع الطموحات الوطنية العامة أو المشتركة .
ويمكن أن نتفهم بعض بواعث انبعاث الهويات الفرعية، خاصة في نطاقها الثقافي وفي نطاق المطالبات السياسية المشروعة، لكن هذه البواعث ما لم تعالج بحكمة وتبصر وروية وبعد نظر يمكن أن تقود إلى مهالك للأوطان مجتمعة ولأهل هذه الهويات أنفسهم، خاصة إذا جرى الركون في هذا السياق على وعود أو تلميحات من الخارج بتبني أو دعم بعض المطالبات.
ووطننا البحرين هو بين الدول العربية غير المتجانسة من حيث التركيبة المذهبية للسكان، وهو يدخل اليوم في نطاق من التوترات النابعة من داخل والمتأثرة بما يجري في المحيط، وإذا لم يجر حصر الأزمة في نطاقها، فن مخاطر السيناريوهات الأسوأ تظل خطراً ماثلاً.
في الدراسات المعمقة التي كتبت عن الطائفية في بلدان عانت منها مثلنا، نقع على تشخيص لها بوصفها وظيفة سياسية تُؤدى، لذا فإنه بدلاً من أن يجري اعتماد تدابير للتغلب عليها والحد من آثارها ومظاهرها وصولاً لإنهائها، نرى أنه يعاد إنتاجها لتواصل أداء هذه الوظائف السياسية، فلا تعود الطائفية والحال كذلك رديفاً للتعددية المذهبية، وإنما هي أداة من أدوات تقسيم النفوذ، ولأن بعض هذا النفوذ غير قابل للقسمة فإنه من الطبيعي أن ينشأ التمييز والتفريق لأسباب مذهبية في الظاهر، ولكنها مع الوقت أسست وتؤسس لتراتبية اجتماعية وإدارية بموجبها تبدو بعض الطوائف في مرتبة أدنى وبحقوق أقل، وفي هذا بالذات خرق لقاعدة المواطنة التي تعني في أبسط تعبيراتها مساواة الجميع أمام القانون وتساوي الفرص أمامهم، والاحتكام إلى معيار الكفاءة لا إلى المعايير المذهبية أو ما يشابهها.
محنة اليسار، لا بل كل القوى المدنية العربية هي أنها اليوم أمام استقطاب جديد غير الذي اعتادته في عقود سابقة، يوم كانت تتصدر النضال في مواجهة الاستبداد ومن أجل بناء مجتمعات ديمقراطية خالية من الفساد، فإذا بها تجد نفسها قليلة الحيلة أمام استبداد يمسك بمفاصل السلطة ويذود عن بقائه فيها بكل ما له من مخالب، وأمام معارضات لن تكون أقل استبداداً منه فيما لو قيض لها النصر. بل إن التجربة الحية خلال السنوات الماضية أظهرت، بالملموس، أن الأمر، عند هذه المعارضات، لا يقف عند حدود قمع الخصوم وحدهم وإنما مصادرة منجزات المجتمعات العربية من الانفتاح والتطور الاجتماعيين، وهما حصيلة تطور تاريخي مديد أنفقت أجيال من التنويريين العرب أعمارها في سبيل بلوغه.
المشكلة تزداد تعقيداً بسبب أن هذه البدائل باتت تستحوذ على القاعدة الشعبية الكادحة، المسحوقة والمعدمة، التي كان لليسار نفوذ في صفوفها، وكان القائد والمنظم لها تاريخياً بما في ذلك الطبقة العاملة ونقاباتها، ففي ظروف الانقسامات الطائفية والمذهبية واستفحالها تعود الجماهير الى قواعدها الخلفية، وتتخلى عن مشتركاتها مع بقية المكونات المجتمعية، وتجد ملاذها في الخطاب الذي يخاطب عواطفها الطائفية، لا في الخطاب التقدمي.