في استدارة كاملة ودرامية، فاجأت الولايات المتحدة المجتمع الدولي، ومن تلقاء نفسها، “بإصدار عفو رئاسي” عن كوبا، بعد أن أودعتها السجن لمدة 54 سنة عقاباً لها على إسقاط رجلها القوي الدكتاتور فولجينسيو باتيستا زالديفار الذي حكم البلاد عملياً (سواء عبر رؤساء دمى أو عبر انقلاب عسكري) لمدة ربع قرن كان الفقر والقمع عنوانها . . وجزاءً لها على خروجها على صراط النظام الاقتصادي الأمريكي واتخاذها وجهة تنموية مستقلة .
في بحر أسبوع واحد تقريباً شهدت العاصمة الكوبية هافانا “هجوماً دبلوماسياً”، حيث تقاطر عليها أعضاء من الكونغرس سرعان ما تبعهم وزير الخارجية جون كيري، أرادت واشنطن من خلالها توجيه رسائل بأن كوبا قد تحولت من دولة عدوة إلى دولة صديقة، وربما قريبة إلى القلب عما قريب!
فما الذي غير فجأة الوجهة العدائية الأمريكية تجاه كوبا؟
نزعم أن عاملين مستجدين رئيسيين هما اللذان حفزا واشنطن على تغيير سياستها تجاه كوبا من النقيض إلى النقيض . هذان العاملان هما على النحو التالي:
1- الانهيار المفاجىء في أسعار النفط الذي سوف يجرد بطبيعة الحال فنزويلا من جاذبيتها لكوبا، من حيث تزويد الأولى الثانية بالنفط بأسعار مخفضة عندما كانت أسعار النفط محلقة فوق مئة دولار للبرميل . فالأزمة المالية التي وجدت فنزويلا نفسها فيها بسبب انهيار أسعار النفط، ستقيد حركتها الخارجية وبضمنها تقديم المساعدات لكوبا . هنا تسارع واشنطن لالتقاط اللحظة وتقديم نفسها صديقاً بديلاً . ومن الواضح أن الأمر لن يقتصر على فتح خطوط السياحة والتجارة أمام الجزيرة وتمكينها من النفاذ إلى الأسواق الأمريكية، وإنما سيشمل “الهجوم” الأمريكي الناعم عليها بإغداق المساعدات عليها، إلى أن تتسبب هذه المساعدات في بدء تسلل الفساد إلى مؤسسات ودهاليز السلطة لتأدية دور سوسة النخر المفضية للانهيار . وإذا ما سارت الأمور كما خططت لها واشنطن، فلن تمر بضعة أعوام إلا وتلتحق كوبا ب”النادي المعولم”، لتفقد استقلالها واستقلال سياساتها الاقتصادية ذات التوجهات الاجتماعية، لتبتعد رويداً رويداً عن فنزويلا وتقترب شيئاً فشيئاً من النماذج الإلحاقية مثل الهندوراس وغيرها في أمريكا اللاتينية . والجزيرة التي لا تزيد أعداد اليهود فيها في الوقت الحاضر على 2000 يهودي، ستتحول إلى قبلة للسائحين “الإسرائيليين” الذين سيشكلون لاحقاً ورقة ضغط معنوية “ناعمة” على السلطات الكوبية لافتتاح متحف لتخليد “الهولوكوست” . ومن يدري فلربما يُسفر “حصار الحب” الجديد عن نجاح العصابة الصهيونية العالمية فيما بعد في وضع أحد أفراد الأقلية اليهودية على رأس البنك المركزي الكوبي .
2- المعركة الشرسة التي أطلقتها واشنطن للتمدد العسكري في شرق القارة الأوروبية وشمالها لإحكام الطوق حول روسيا والتي تجاوزت بولندا وجمهوريات البلطيق السوفييتية السابقة الثلاث، (لاتفيا، وليتوانيا وإيستونيا)، إلى العمل بكل قوة لإسقاط النظام القائم في أوكرانيا برئاسة فيكتور ياناكوفيتش، وإحلال نظام موال لواشنطن في كييف يفتح الطريق نحو إلحاق الأراضي الأوكرانية بمواطىء الأقدام الجديدة لحلف شمال الأطلسي الواقعة مباشرة على الحدود الروسية . وقطعاً للطريق على روسيا التي أحيا رئيسها فلاديمير بوتين علاقات الصداقة والتعاون التاريخية التحالفية التي كانت قائمة بين الاتحاد السوفييتي السابق وكوبا، والحيلولة دون مسارعة موسكو لإعادة تركيب ما فككه انهيار الاتحاد السوفييتي من وشائج وروابط عسكرية بين البلدين، بما يشمل ذلك إعادة تنشيط القواعد العسكرية الروسية في الجزيرة ونشر قوات ردع تقليدية واستراتيجية صاروخية بمواجهة الأراضي الأمريكية المجاورة مباشرة، وذلك رداً على التوغل العسكري الأمريكي في الجوار الروسي فقد آثرت واشنطن ابتلاع 54 عاماً من العداء الفاجر والحقد المتراكم على كوبا، والإسراع “لضمها إلى حضنها” بقوة كي لا تفلت منها، وكي تُشعرها بدفء حنانها الذي حل عليها فجأة والذي سيعوضها عن حرمان السنين الخمسين ونيف الغابرة . ولسوف يشمل ذلك رفع كوبا من قائمة الدول الراعية للإرهاب والسماح للمؤسسات المالية الدولية لفتح خطوط ائتمان لتمويل المشاريع والاحتياجات التنموية للجزيرة، وكذلك السماح للمواطنين الأمريكيين بالسفر إلى كوبا . وحتى في غياب رفع الكونغرس الحظر على سفر الأمريكيين إلى كوبا الذي فرضه في عام 1996 بموجب قانون هيلمز – بيرتون، فقد زار كوبا العام الماضي 400 ألف أمريكي .
جدير بالذكر أن كوبا، رغم الحصار المفروض عليها، ظلت ضمن صدارة قائمة مؤشر الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بسبب إنجازاتها في مجالات التعليم والصحة، بل إن كوبا قادت الجهود الدولية لمكافحة مرض إيبولا، كما شاركت في كفاح الأفارقة لهزيمة الاستعمار والأبارتيد في أنغولا وجنوب إفريقيا .