خلال استقباله يوم الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أي في اليوم التالي لصدور نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس التي خسر فيها حزبه الديمقراطي أغلبيته في مجلس الشيوخ، وهو لقاء لم يكن مدرجاً على جدول أعمال اجتماعاته في ذلك اليوم، خلال استقباله في مكتبه في البيت الأبيض وفداً يمثل قادة الاحتجاجات التي اندلعت في مدينة فيرغسون بولاية ميسوري إثر قرار هيئة المحلفين بتبرئة دارين ويلسون ضابط الشرطة الأبيض من تهمة قتله للشاب الأسود مايكل براون في شهر أغسطس/ آب الماضي، حرص الرئيس الأمريكي باراك أوباما على تطييب وتهدئة خواطر هؤلاء النشطاء وأقارب الضحية وأبناء ضاحيته بكلمات حملت تطمينات بأن المحكمة العليا سوف تنظر في القضية من جديد، على أمل أن تثنيهم كلماته الهادئة عن المضي في احتجاجاتهم، بعد أن ساوره وأركان إدارته القلق من أن تتواصل وتيرة الاحتجاجات وتمتد إلى أماكن أخرى . ولكن المحكمة العليا لها سابقة غير بعيدة، مخيبة للآمال فيما يتصل بالموقف المبدئي من قضية التمييز العنصري الذي مازال يضرب بجذوره في تربة المجتمع الأمريكي .
فلقد ألغت هذه المحكمة في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران 2013 قانوناً انتخابياً محورياً في النضال من أجل الحقوق المدنية كان قد صدر في عام ،1965 في ذروة نضال السود ضد جميع أشكال التمييز ضدهم . وهو القرار الذي أثار سخط وغضب وتنديد منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان في الولايات المتحدة . يومها اعتبر وزير العدل إريك هولدر ، وهو من أصل إفريقي، أن المحكمة العليا ألغت ما أسماه “حجر زاوية في قوانيننا حول الحقوق المدنية”، معتبراً ذلك “نكسة خطيرة لحقوق الانتخاب من شأنها أن تطال سلبياً ملايين الأمريكيين” . مع التنويه سريعاً في هذا الصدد أن أغلبية أعضاء المحكمة العليا، وهي أعلى هيئة قضائية في الولايات المتحدة، هم من المحافظين، وهو توصيف مخفف لليمين الراديكالي المتشدد!
هنا أيضاً هرع نواب الحزب الديمقراطي وحتى الرئيس أوباما نفسه لتبرئة أنفسهم من هذا الارتداد الديمقراطي والحقوقي، والظهور أمام الرأي العام عبر وسائط الإعلام الفتاكة كمعارضين لقرار المحكمة ومدافعين بقوة عن بقائه، و”لكن جميع مساعينا للأسف الشديد باءت بالفشل” . . وكأني بلسان حالهم يردد “أن لا حول ولا قوة إلا بالله”!
جدير بالذكر، أن قرار هيئة المحلفين بتبرئة ضابط الشرطة قد أشعل الاحتجاجات في مدينة فيرغسون ردد المتظاهرون خلالها هتافات “لا عدالة، لا سلام”، سرعان ما امتد نطاقها إلى مختلف الولايات الأمريكية طوال الأسبوع الذي تمت فيه تبرئة الضابط الذي أُوقف عن العمل فحسب قبل أن توعز إليه “مؤسسته” تقديم استقالته لتخفيف حدة الغضب في الشارع .
على مقلب آخر، وفي صدد تقرير اللجنة التي شكلها الكونغرس برئاسة دايان فينشتاين رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، لتقصي وتقرير أساليب الاستجواب القسرية التي استخدمتها وكالة المخابرات المركزية بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول إبّان ولاية الرئيس السابق جورج دبليو بوش، يعود المكر السياسي والإعلامي للظهور من جديد في مقاربة مؤسسة الحكم لهذه القضية التي يمكن وضعها في خانة الفضيحة في حال وُضعت قبالة الزعيق والصياح الأمريكيين غير المنقطعين على “انتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية” في بلدان بعينها منتقاة على أسس أمريكية “خاصة” .
فلقد بذل البيت الأبيض مساعيه ومارس ضغوطه على أعضاء اللجنة من أجل منع نشر التقرير، واتصل وزير الخارجية جون كيري برئيسة اللجنة محذراً إياها من “أن نشر التقرير في هذا الوقت قد يشعل أعمال عنف جديدة في الشرق الأوسط ويعرض جهود مكافحة تنظيم “داعش” . ولكن ما إن وصلت أنباء هذه الضغوط على اللجنة إلى الإعلاميين “الفضوليين”، حتى غيَّر البيت الأبيض وجهة رواية خطابه، إذ سرعان ما هرع الرئيس باراك أوباما لإصدار بيان ذكر فيه “بأن هذا التقرير يصف برنامجاً يثير القلق ويزيد من اقتناعي بأن هذه الوسائل القاسية لم تكن مخالفة لقيمنا فقط ولكنها لم تكن مفيدة لجهودنا في محاربة الإرهاب، وأن هذه التقنيات لطّخت كثيراً سمعة أمريكا في العالم”، واعداً بالقيام بكل ما هو ممكن لضمان عدم تكرارها، قبل أن يتحول لتبريرها بالقول “لا توجد أمة كاملة، لكن أحد مكامن القوة في أمريكا هو في إرادة المواجهة الصريحة لماضينا ومواجهة النواقص والتغيير باتجاه الأفضل”!
وما كاد يصدر هذا البيان حتى عاد وزير خارجيته لابتلاع زمجراته وتحذيراته بعظائم الأمور التي كان أطلقها تواً في وجه رئيسة اللجنة، فيعلن، في بيان هو الآخر، هكذا بكل أريحية واتته فجأة، “بأن صدور تقرير مجلس الشيوخ يؤكد أن إحدى نقاط قوتنا هي الاعتراف بالخطأ وتصحيح المسار، وأنه كان من الصواب وضع حد لهذه الممارسات لسبب بسيط ولكنه قوي: أن تلك الممارسات كانت بعكس قيمنا، هذه الممارسات ليست ممثلة لنا، أو حتى توضّح ما يجب أن نكون عليه، لأن أقوى دولة على وجه الأرض لا ينبغي عليها أن تختار بين حماية أمنها وتعزيز قيمها”!
كلمات رمادية، مطاطية، مقحومة في سياقات لا علاقة لها بها، تناوب رئيس البلاد ووزير خارجيته على توضيب سردياتها، حتى وإن بدت – للمراقبين – محاولة ماكرة للالتفاف وحرف مسار الحديث عن صلب الموضوع/ الفضيحة . فهي لن تعدو أن تكون، في مطلق الأحوال، سوى تلفيقات منمقة حتى وإن كانت مضلِّلة، مُصاغة على مقاس مزاج ووعي الكتلة العظمى من الجمهور الضعيف المسلوب الإرادة حيال تنين الدولة العميقة، والمسحور بالسيل المنهمر للضخ الإعلامي عبر التلفاز، متسيد ساحة تشكيل وإعادة تشكيل الوعي الجمعي والفردي الأمريكي .
أما النتيجة فهي خروج “المؤسسة” (مؤسسة الدولة العميقة المتغولة) من هذه الفضيحة الجديدة، كما هي دائماً عادتها، مثل “استلال الشعرة من العجينة” . وإعادة تقديم نفسها والبلاد التي تسود كأكثر مؤسسات الحكم وأكثر بلدان العالم طُهراً وتقوى، في الديمقراطية كما في حقوق الإنسان . وإلا أين هذه الفضيحة من الفضيحة الأعظم التي هزت العالم حين أقدمت “المؤسسة” على اغتيال رئيس البلاد (جون كنيدي) حين اعتبرته مارقاً خارجاً عن صراطها؟ . . فإذا كانت قد خرجت من تلك الفضيحة المدوية ولم يتم حتى اليوم كشف مستورها (علماً بأن تاريخ اغتياله هو في يوم الجمعة 22 نوفمبر 1963 في دالاس بولاية تكساس!)، فإنها تعتبر نفسها في هذه الفضيحة إنما تخوض تمريناً اعتيادياً سهلاً طالما اعتادت على اجتياز أمثاله، وما هو أصعب منه بإسعاف مكرها السياسي والإعلامي . . من قنابل هيروشيما وناغازاكي إلى محرقة فيتنام وكمبوديا ولاوس . . إلى الانقلابات الدموية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية . . إلى حروب الوكالة العدوانية التي شنتها وتشنها “إسرائيل” نيابة عنها على البلدان والشعوب العربية . . إلى غوانتانامو وأبوغريب . . والحبل على الجرار!
بالمناسبة، فإن عدد صفحات تقرير فنشتاين يبلغ 6000 صفحة لم ينشر منها سوى 480 صفحة فقط، فما الذي تحويه يا تُرى بقية الصفحات ال 5520 صفحة التي أُبقيت طي الكتمان إكراماً لعيون “مؤسسة” الدولة العميقة؟