منذ أن بدأت أسعار النفط بالتدهور في شهر يوليو/تموز من العام الماضي، واللغط السياسي بشأنها لا يكاد يتوقف في مختلف الوسائط الاعلامية العالمية وفي مختلف أوساط شرائح المجتمعات، لاسيما المجتمعات العربية التي يمكن اعتبارها أكثر المعنيين اجتماعياً بتحركات سعر برميل النفط في الأسواق العالمية، صعوداً وهبوطاً . بدأ اللغط بتكهنات اعتباطية رددتها ألسنة وأقلام بعض الفهلويين الذين يستسهلون تسييس كل ما يخطر لهم على بال غير عابئين بعدم اختصاصهم وغياب المعلومة وأداة التحليل لديهم، سرعان ما انتقل كالنار في الهشيم إلى مستويات أعلى من القيادات الإعلامية والسياسية في العالم قاطبة، لاسيما في كبريات الدول المنتجة والدول المستهلكة للنفط في العالم .
وكان أن اعتبرها بعض الساسة فرصة مواتية للتوظيف السياسي في الحروب الباردة بين عديد أطراف الصراعات الإقليمية والدولية . فبعد ثوماس فريدمان، الكاتب والصحفي المعروف بصحيفة “نيويورك تايمز”، الذي هلل لانهيار سعر برميل النفط باعتباره، من وجهة نظره، مؤامرة مدبرة لضرب الاقتصادين الروسي والإيراني، جاء الدور على قطب اليمين الجمهوري المتطرف جون ماكين، الذي لا يعير أدني اهتمام لموقعه الرسمي ولا للمسؤوليات المترتبة عليه ولا إلى البروتوكولات الدبلوماسية . فقد أعلن بكل صلافة أن على بلاده (الولايات المتحدة) أن تشكر المملكة العربية السعودية على الأضرار التي ألحقتها بالاقتصاد الروسي نتيجة رفضها خفض سقف إنتاج “أوبك” لوقف تدهور سعر برميل النفط، في محاولة مكشوفة ورخيصة لتشويه سمعة السعودية وبذر بذور الشكوك في العلاقات بين موسكو والرياض لإحداث نوع من القطيعة بينهما، من أجل الحؤول دون حدوث تنسيق بين أكبر منتج للنفط في أوبك، المملكة العربية السعودية، وأكبر منتج للنفط خارجها .
هذا التسييس يمكن فهمه من حيث اندراجه في إطار تسعير حدة المماحكات والكيد السياسي كأحد أشكال تجليات الصراعات الباردة بين القوى الدولية المتنافسة على مناطق النفوذ والمصالح . إنما الذي يصعب فهمه هو ذلكم الانخراط الحماسي المتهالك لبعض أقطاب السياسة العربية وبعض مجاميع النخبة الإعلامية والسياسية العربية، في هذا التزاحم والتسابق على تقديم تفاسير مثيرة لسيناريوهات مؤامرة محاكة لتصفية حسابات والإضرار بأطراف دولية بعينها، مطمئنين إلى أن أحداً لن يُسائلهم ويطالبهم بعرض بيّناتهم وبراهينهم على مزاعمهم الارتجالية التي يعرضونها باعتبارها يقينيات لا يدانيها الشك .
والحال أن معظم المعلقين الذين أفتوا، ويفتون في موضوع انهيار أسعار النفط، ليسوا من ذوي الاختصاص في علم الاقتصاد، فضلاً عن اقتصادات الطاقة عموماً، واقتصادات النفط منها على وجه الخصوص . لذا، فإن تعليقاتهم جاءت محض سياسية لم تتوفر على أدوات التحليل القياسية اللهم خضوعها لمغريات التأويل التآمري السهل لوقائع الأحداث فقط، والتي جاءت خلوا من أية إشارة تتصل مباشرة بصميم المحركات الأساسية للسوق العالمية للنفط، وهي هنا الأساسيات الاقتصادية (Economic fundamentals) المُعبَّر عنها إيجازاً بقوى السوق (Market forces) أي العرض والطلب، حيث كانت السوق تتجه منذ شهر يوليو/تموز الماضي لمراكمة فائض في العرض عن حد الطلب الذي يفترض أن تتقاطع عندهما المنفعة الحدية للبائعين والمشترين، بسبب تجاوزات متجمعة بحجم مليوني برميل يومياً تقريباً من جانب عدد من الدول الأعضاء في “أوبك” لحصصها الإنتاجية المقررة (من إجمالي سقف إنتاج المنظمة البالغ 30 مليون برميل يومياً موزعة على الدول الأعضاء ال 12 وفقاً لطاقاتها الانتاجية)، إلى جانب نحو 5 .2 مليون برميل يومياً من النفط الصخري ضختها في السوق أمريكا الشمالية . والأكيد أيضاً، المسقَط من تأويلات أولئك المغلبين للبعد السياسي لموضوع انهيار أسعار النفط على بعده الاقتصادي، إسقاطهم لحقيقة أن حصة “أوبك” في سوق تصدير النفط الخام (لاحظ أننا نتحدث عن النفط الخام، Crude oil، وليس المنتجات النفطية) تشكل نحو 30% تقريباً من إجمالي الصادرات العالمية من النفط الخام (30 مليون برميل من 98 مليوناً) . وهو ما يعني أن أي انسحاب لأوبك من السوق من خلال خفض إنتاجها سوف يهرع المنتجون الآخرون من خارج “أوبك” الذين يحظون بنسبة ال 70% من السوق، لشغله فوراً وبأسعار تنافسية قياساً لأسعار مبيع دول أوبك . فهناك روسيا التي تبلغ طاقتها التصديرية 5 .4 مليون برميل، والمكسيك 5 .1 برميل، وكندا 5 .1 مليون برميل، والنرويج 7 .1 مليون برميل، وكازاخستان 3 .1 مليون برميل، والبرازيل نحو 800 ألف برميل، إضافة إلى عشرات المنتجين الصغار الآخرين . ففي ظل الضائقة المالية للدول المصدرة للنفط، وبينها دول أعضاء في “أوبك”، وفي ظل تخطي المعروض النفطي للطلب عليه، وفي ظل وجود رصيد كبير من براميل النفط (قُدِّر بنحو 5 ملايين برميل) كمحافظ مضاربة لدى صناديق التحوط، والتي أفرغتها دفعة واحدة في السوق تحت ذعر تهاوي سعر البرميل في السوق – يصبح الصراع على الاحتفاظ بالأسواق هو أساس حركة السوق في هذا الظرف . ثم إن جميع أولئك الزاعمين بوجود مؤامرة نفطية بسيناريوهات ذات نكهة واحدة متشابهة، لم يأتوا أبداً على ذكر الأضرار الفادحة التي لحقت بالولايات المتحدة جراء انهيار الأسعار، وفي مقدمتها انكشاف الموقف المالي للشركات النفطية الأمريكية التي اقترضت أموالاً ضخمة من المصارف مستفيدة من سياسة سعر الفائدة المتدني لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، والأخرى التي أصدرت سندات لتمويل أنشطتها التنقيبية عن النفط في ولايتي تكساس وداكوتا الشمالية، على إثر انهيار سعر برميل نفط غرب تكساس، وهو ما يهدد بحدوث تصدعات جديدة في البنوك التي أقرضت هذه الشركات وفي صناديق التقاعد التي استثمرت في سندات هذه الشركات!
يبقى أن قطاع الطاقة، وفي المقدمة منه النفط الخام، هو المحرك الأساس للاقتصاد العالمي والمعني الأول بنمو إجمالي ناتجه، فضلاً عن عوامله المضاعِفة لخلق الوظائف ونشر النمو قطاعياً . فلا يزال النفط، كوقود أحفوري (Fossil fuel)، يضطلع بحصة الأسد في مزيج الطاقة العالمي (Global Energy Mix)، بنسبة تبلغ 36%، يليه الفحم بنسبة 28% .
لما كان ذلك، فليس معقولاً أن تتعامل أسواق المال العالمية (الأسهم والسندات) مع سلعة استراتيجية حيوية مثل النفط، كما لو كانت سلعة ثانوية كالقهوة أو الكاكاو على سبيل المثال . فضلاً عن أن النفط سلعة ناضبة، غير متجددة كما هو حال عديد سلع التداول في بورصات السلع المستقبلية التي تخضع بين الحين والآخر لتذبذبات سعرية، صعوداً وهبوطاً، تفرضها قوى السوق . ومع ذلك، فإن أسعارها لا تنهار، على النحو الذي حصل لسلعة النفط رغم علم رواد السوق بعدم وجود اكتشافات نفطية جديدة تحيل معروض النفط إلى تخمة يمكن أن تبرر انحدار سعرها في السوق . في الواقع أن النفط يتعرض إلى هجمة شرسة تهدف لإخراجه من السوق بتهمة التسبب بصورة رئيسية في حجم انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتحديداً غاز ثاني أكسيد الكربون . ولعلي أزعم هنا أن ما تفعله السعودية هو في حقيقة الأمر عبارة عن خوض معركة ناعمة لصد العدوان المتجاسر على النفط الخام، بدعاوى (أمريكية وأوروبية) لإحلال البدائل الصديقة للبيئة محله (مع انهم يواصلون تطوير طاقاتهم الانتاجية من الفحم، مثل ألمانيا التي تقول انها ستحول 80% من طاقتها بحلول عام 2050 إلى طاقة متجددة، في حين تسارع لطلب عون جارتها السويد لاستخراج الفحم من أحد مناجمها) . . مثلما تكثف الولايات المتحدة نشاطها التنقيبي عن النفط المحبوس بين التكوينات الجيولوجية العميقة بتكلفة عالية، لاستهلاكه وبيعه في الخارج .