رغم مرور ما يقرب من سبعة عقود على إنشاء الـ «سي آي أيه» وحتى يومنا هذا، فإن الميزانية الرسمية المرصودة لها مازالت سراً أو يكتنفها الغموض، لكن من المسلّم به أنها تشغل المرتبة الأولى بين أجهزة الاستخبارات العالمية من حيث ضخامتها، حتى بلغت في السنوات الأخيرة ببضع عشرات من مليارات الدولارات.
وكانت أول مرة تكشف فيها «سي آي أيه» عن ميزانيتها بعد مرور نصف قرن على إنشائها (في العام 1947)، حيث كشف مديرها آنذاك جورج تينيت بأنها تُقدر بـ 26.6 مليار دولار للعام 1997. وجاء هذا الكشف ليس طوعياً بل تحت ضغط طلبٍ استند إلى قانون حق الوصول للمعلومات، ولذلك لم يتورع تينيت من التنبيه بأن ذلك لا يعني التخلي مستقبلاً من نهج السرية في ميزانيتها الذي تتبعه الوكالة منذ إنشائها.
وفي صيف العام 2013، كشف الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الفار من بلاده إدوارد سنودن، أن الولايات المتحدة تخصّص 52 مليون دولار على أجهزتها الإستخباراتية الستة عشرة. وأياً يكن الرقم الحقيقي لموازنة «سي آي أيه»، فإن المقطوع به يُقدّر اليوم ببضع عشرات من مليارات الدولارات، زاد أم نقص .
إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: كم يُخصص من المبالغ للبند الذي يشمل الاستجوابات وتعذيب المتهمين والأدوات التي يستخدمونها لتحقيق هذه الغاية؟ لا شك أن ذلك لا يقل عن بضعة ملايين من الدولارات. والأسوأ من ذلك أن كثرة من حالات الاستجوابات المنافية للأخلاق وقيم حقوق الإنسان ثبت، وباعتراف تقرير لجنة مجلس الشيوخ، غير مجدية ولم تفض إلى معلومات مهمة أو ذات شأن وخصوصاًً بعد حوادث سبتمبر 2001. فلا غرابة والحال هذه، إذا ما أدانت الشرائع والقوانين الدولية بعدم مشروعية التعذيب ليس بوصفه وصمة عار في جبين حضارتنا البشرية المعاصرة، بل ولأنها وسيلة ثبت أنها غير ناجعة أو دقيقة في الوصول للحقائق والأدلة الجنائية ضد المتهم في معايير المحاكمات والعدالة الإنسانية، سواءً على مستوى القضاء الوطني للدول أم على مستوى القضاء، مادامت المعلومات التي تنتزع من المتهم تتم تحت الإكراه، والذي يدلي بها إنما يكون تحت الإكراه ولتخليص نفسه من قساوة التعذيب أو إنقاذ نفسه من الموت، سواءً أكان ما أدلى به صحيحاً أم تلفيقاً، مادام يتم تبعاً لمشيئة المحقّق الجلاد في غرف التحقيق، ومن ثم فهي تفتقد المصداقية والدقة، وسواءً أكانت وسيلة التعذيب بدنية، إيذاء جسم المستجوب أم نفسية.
ويعترف تقرير لجنة مجلس الشيوخ أن الوكالة دفعت 80 مليون دولار لشركة يديرها طبيبان نفسيان كانا يعملان في سلاح الجو، وهما من ابتكرا تقنية الإغراق الوهمي والضرب الوهمي على الوجه والذقن («الشرق الأوسط»، عدد 11/12/2.14). ويشير المحلل السياسي نوح فيلدمان إلى أن «سي آي أيه» كانت دائماً محصّنةً ضد المساءلة القانونية لاعتمادها على آراء ونصائح مكتب استشارات قانونية في مكتب وزارة العدل تُقدَّّم للوكالة بناءً على طلبها. والمذهل أن المذكرات الاستشارية المرفوعة من هذا المكتب الاستشاري بوزارة العدل يُسمى بـ «مذكرات التعذيب»، («الشرق الأوسط، عدد 14/12/ 2014).
فلا غرابة والحال كذلك، إذا ما أضحت الملاحقات القانونية تجاه جرائم التعذيب التي يُفترض أن لا تسقط بالتقادم، أن تنتهي إلى طريق مسدود، ولا تطاول أصغر المحققين الجلادين فيها، فما بالك بكبار المسئولين فيها وصولاً إلى مديرها فرئيس البلاد!
ويتضح باعتراف رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي ديان فاينشتاين، أن كل الاستجوابات التي اقترنت بتلك الوسائل التعذيبية لم تؤدِ إلى أية نتائج ذات جدوى في مكافحة الإرهاب، أو بمعنى آخر كُل ما صُرف من جهد ومال طائلين، إذا ما نحّينا جانباً البُعد اللاأخلاقي واللاإنساني في هذه الوسائل الاستجوابية، كان عبثياً وبلا معنى. والحال فإنها لم تؤدِّ إلا إلى تنفيس نزعات الانتقام العنصرية الدفينة على أيدي المحققين البيض تجاه الموقوفين من العرب والمسلمين، وإن كانت هذه النزعات المريضة تقترن في الغالب تجاوزاتها في استجوابات «سي آي أيه» برغبة فعلية جادة بالوصول إلى معلومات مفيدة في مساعي هذه الوكالة في حربها على الإرهاب، على عكس الأجهزة الإستخباراتية العربية المتعاونة والصديقة لها، ففي الغالب ما تلفق معظم هذه الأجهزة قضايا ودعاوى مختلقة تماماً للخصوم السياسيين في المعارضة، وحتى للمواطنين الأبرياء تماماً من أي نشاط سياسي، ليس بغرض الوصول لمعلومات مفيدة ضد الإرهاب أو لكون المستَجْوَبين الموقوفين عناصر إرهابية أو تشكّل خطراً فعلياً على الأمن القومي، بل كوسيلة للإنتقام البدائي على أيدي أحط العناصر خُلقاً تجاه أولئك الموقوفين تبعاً لانتماءاتهم الحزبية والسياسية، أو القومية والقبلية، أو لمجرد انتماء الموقوف لمذهب أو طائفة معينة، وهنا يصل الأمر إلى حد تصفية الخصم الموقوف تحت التعذيب أو حمله على الإدلاء باعترافات كاذبة معدّة سلفاً، لا يجد المُعذَّب مناصاً لإنقاذ نفسه من موت محقّق أو تحت وطأة آلام مبرحة لسياط الجلاد أو وسائل التعذيب الأخرى، سوى الإقرار بما يُطلب منه الجلاد أن يوقّع عليه.
وإذ تكاد فضيحة «سي آي أيه» التي كشف عنها مجلس الشيوخ تتوارى ويخفت صداها بعد مرور أسبوع من انشغال الرأي العام والإعلام العالمي بها، فإن لا شيء أكثر فعاليةً في تشكيل ضغوط داخلية أميركية وعالمية ضد تلك الانتهاكات المخزية لحقوق الانسان في «سي آي أيه» ومعظم أجهزة استخبارات البلدان الشمولية والدكتاتورية المرتبطة بها، أعظم من مواصلة شن الحملات من قِبل منظمات حقوق الإنسان ضد تلك الانتهاكات الوحشية التي تُرتكب في أقبية سجون الـ «سي آي أيه» وحليفاتها في تلك البلدان الدكتاتورية.
وفيما يتعلق بفضيحة الـ «سي آي أيه» الأخيرة، بدا أن اهتمام تلك المنظمات بأوضاع حقوق الانسان في هذه الدول الدكتاتورية أكبر من أميركا، في حين لو شنت حملات قوية متواصلة على «سي آي أيه» لتورطها في تلك الجرائم وحقّقت تقدماً في ذلك لكان ذلك بداية واعدة نحو ردع الإدارة الأميركية وحملها ليس على التراجع عن هذه الأساليب القذرة في أجهزتها فحسب، بل وعدم صمتها على ممارسة ذات الأساليب في الدول الدكتاتورية الحليفة لها. ولو أدرك السود الأميركيون أن قضية انتهاك حقوقهم الإنسانية والمدنية وممارسة التمييز العنصري بحقهم، غير مفصول عن الممارسات العنصرية تجاه العرب والمسلمين في أميركا، لكان كلا الطرفين، السود الأميركيين والعرب والمسلمين، وعوا ما يربطهم من قضية مشتركة ولكان كفاحهم المشترك أكثر فعالية ضد النظام الذي هما ضحايا ممارساته العنصرية تجاههما.
صحيفة الوسط البحرينية – 06 يناير 2015م