أكثر من مرة أعدت الشريط التسجيلي القصير للمشهد الذي يظهر فيه الشهيد زياد أبوعين وزير شؤون الجدار والاستيطان الفلسطيني، وهو “يطلق” كلماته الدقيقة المحكمة التصويب نحو ضباط وجنود الاحتلال “الإسرائيلي” الذين حضروا لقمع المسيرة الاحتجاجية السلمية التي نظمتها لجان المقاومة الشعبية وقادها الشهيد أبو عين في قرية ترمسعيا شمالي رام الله بالضفة الغربية . لقد صاح في وجوههم “أنتم جيش إرهابي . . لن يهزمنا هذا الاحتلال الفاشي، وقدر شعبنا أن يقاوم هذا الاحتلال، وسنستمر في المقاومة على كل أرضنا الفلسطينية” .
الأكيد أن عقلية السرقة المتدحرجة للأراضي الفلسطينية التي يتصرف بوحي منها حكام “إسرائيل”، كانت حاضرة في تلك اللحظة التي صارعها فيها المناضل أبوعين هو وحشده الشعبي، والتي – تلك العقلية النازعة للسطو المنظم والممنهج – لن تحتمل حركة مضادة لها قائمة على أساس التمسك بالأرض وغرس أشجار الزيتون في تربتها . وكان لا بد من أن تتحرك لتطويق الحركة الميدانية الواعية التي قادها المناضل زياد أبوعين . إنما اختيار الشهيد لعبارات توصيف دقيقة ل”إسرائيل” ولجيشها الذي يمثل عنوان جبروتها وطغيانها وعدوانيتها وهمجيتها، كان بمثابة الصاعق الذي أربك واستفز غرائز خزين كل ذلكم الإجرام الذي تحوزه، ودفع أوباش هذا الجيش لتوجيه خوذاتهم وأعقاب بنادقهم نحو صدر المناضل أبوعين ومسيلات دموعهم إلى حشده الشعبي الغاضب على غاصبي الأرض والزرع . فكان القرار، الفردي على مستوى ضباط وجنود وحدة الجيش الصهيوني التي تصدت للمناضل أبو عين وحشده، أو على مستوى القيادة الصهيونية، الأمر سيان، “بالتخلص” من أبو عين .
زياد أبو عين، أحد الأسماء “المتوارية” بين صفوف أسماء ثلة القيادات الفلسطينية المتصدية للعمل السياسي، خصوصاً في الفصل المتعلق بشؤونه الخارجية . في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي التقيت في ردهة أحد فنادق القاهرة، عزام الأحمد الذي كان يوماً رئيساً لجميع الطلاب العرب في بلدان العالم كافة . فقد كان رئيساً لاتحاد الطلاب العرب الذي كانت بغداد مقره الدائم . ولاشك في أن المتابع على دراية بحجم الملفات التي كلفته بها قيادة فتح وقيادة السلطة الوطنية الفلسطينية بزعامة أبو مازن، ومنها ملف المصالحة الفلسطينية بين “فتح” و”حماس” . وأعتقد أن الرجل يبلي بلاءً ممتازاً على هذا الصعيد . ولذلك سألته كيف تجد عملك السياسي النضالي اليوم مقارنة بعملك النضالي في سبعينات القرن الماضي؟ فأجابني والحسرة تلتمع في بريق عينيه أن تلك كانت أيام ملؤها الصدق والبساطة والتضحية والعمل المتفاني من دون كلل .
زياد أبو عين مناضل أيضاً، ولكنه مناضل من طراز آخر فريد . فحين تعاين سيرته الحياتية ستجد نفسك أمام نموذج من المناضلين النوعيين الذين قال عنهم يوماً أحد قادة الثورات الكبرى في التاريخ “إن مئة من هؤلاء الثوريين المحترفين والمنظَّمين (واضعاً خطين تحت مفردتي المحترفين والمنظَّمين)، قادرون على قلب الأوضاع في بلدانهم رأسا على عقب” . فمن أصل 55 سنة عاشها الشهيد المناضل زياد أبو عين، فقد بلغ عدد إجمالي السنوات التي قضاها في السجون “الإسرائيلية” والأمريكية 14 سنة، منها 1_ سنة في السجون “الإسرائيلية”، و3 سنوات في السجون الأمريكية . ولم تكن سنوات تغييبه في هذه السجون متصلة، وإنما كانت متقطعة وموزعة على امتداد محطاته النضالية التي لم تتوقف منذ ريعان شبابه، حيث اعتقل أول مرة في عام 1977 وعمره ثمانية عشر عاماً، ثم اعتقل في عام 1979 . ولم يكد يفرج عنه في عام 1985 حتى أُعيد إلى السجن بعد شهرين فقط من اعتقاله . . وهكذا دواليك حتى خوضه آخر محطات نضاله الوطني ضد نظام الفصل العنصري الصهيوني لحظة استشهاده على أيدي الجيش الفاشي “الإسرائيلي” يوم الأربعاء 10 ديسمبر/كانون الأول 2014 . وهو أول معتقل فلسطيني يتم تسليمه من قبل الولايات المتحدة ل”إسرائيل” في عام ،1981 بعد أن صمّت واشنطن أُذنيها ورفضت الانصياع لسبعة قرارات صادرة من الأمم المتحدة تطالبها بالإفراج عنه .
حتى توزيره، بإسناد إحدى الحقائب الوزارية له في الحكومة الفلسطينية في رام الله، لم يؤثر قيد أنملة في وهج المناضل الميداني داخله . وحين قبل بالمنصب الوزاري فقد اختار أن يكون منصباً متناسباً مع روحه النضالية الوثابة التي لم تكن لتتقبل “هندام” ورسميات ووجاهة المناصب الوزارية المعتادة . وزير شؤون الجدار والاستيطان، مسمى وظيفي هو أقرب إلى رجل احترف الكفاح من أجل قضية كبرى نبيلة هي قضية وطنه وشعبه الفلسطينيين، منه إلى شخصية الوزير التقليدية .
وظني أن زياد أبو عين هو أول وزير في العالم العربي يستشهد في ساحات الوغى . . وأي ساحة؟ إنها ساحة الكفاح الأعقد والأمَر في تاريخ شعوبنا العربية . . ساحة استمرار الكفاح من أجل التحرر الوطني من ربقة أكثر الاستعمارات لؤماً ووحشية . . الاستعمار الصهيوني لفلسطين وعديد البقاع العربية .
ورغم صعوبة تعويض خسارة الشهيد زياد أبو عين، إلا أن الأكيد أن فلسطين المحتلة تتوفر على آلاف المناضلين النوعيين الذين سوف يستلهمون ملحمة زياد أبو عين الكفاحية في منازلة العدو الغاصب للأرض والحقوق، وأن شعباً لديه مناضلون من طراز أبو عين لا يمكن قهره أبدا.