هل كان على العالم أن ينتظر مجيء “بابا” للفاتيكان من أصول أمريكية جنوبية، ليستخدم مكانته الروحية والمعنوية الكبيرة، فضلاً عن السياسية بالطبع، للدفع بخطوات فك أطول حصار اقتصادي أمريكي، وبالنتيجة غربي، على بلد في العالم، وليس هذا البلد سوى جزيرة كوبا غير البعيدة عن مسقط رأس البابا الآتي للفاتيكان من الأرجنتين؟
بالمقارنة مع أسلافه يبدو بابا الفاتيكان الحالي أكثر تفتحاً وأكثر قرباً من أفكار الحرية والعدالة، ولعل لذلك صلة بمنبته الأمريكي اللاتيني، فهذه القارة التي وصفها أحد الأفلام القديمة ب “القارة الملتهبة” ساحة للصراع من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية وفك التبعية للغرب وتحقيق التنمية المستقلة، لذا وجدناها في العقدين الماضيين تدفع إلى مناصب رئاسة الجمهورية أو الحكومة برؤساء ذوي ميول تقدمية وأكثر التصاقاً بهموم شعوبهم .
في أمريكا اللاتينية بالذات ظهر ما عُرف بلاهوت التحرير، حيث غدت الكنيسة ورجالها منخرطين في النضال الشعبي من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، وأفلحوا في إيجاد القواسم المشتركة الكثيرة مع الحركات الاجتماعية والسياسية المناهضة للهيمنة الأجنبية وللاستغلال، وهو الأمر الذي لم يتعلم منه الإسلام السياسي عندنا، الذي أخفق ويخفق في الخروج من انغلاقه الفكري والسياسي على نفسه .
مناسبة هذا الحديث ما كشف عنه مؤخراً من دور اضطلع به البابا فرنسيس في بناء جسور التفاوض السري بين كوبا والولايات المتحدة من أجل أن ترفع الأخيرة حصارها الجائر على بلد اختار لنفسه النظام الاجتماعي والسياسي ورفض الانصياع لشروط الهيمنة التي عملت واشنطن على إملائها عليه . وفي نتيجة ذلك لم تواجه هافانا الحصار وحده، وإنما المكائد والمؤامرات التي استهدفت الإطاحة بالنظام فيها، والتصفية الجسدية لفيدل كاسترو الذي حكم كوبا عقوداً .
لم يؤد تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار المعسكر الاشتراكي في شرقي أوروبا إلى تغيير في السياسة الكوبية، مثلما لم يؤد تنحي فيدل كاسترو عن الرئاسة وتبوؤ شقيقه راؤول إلى شيء من هذا .
سيسجل التاريخ أن الأخوين كاسترو أفلحا في أن يكسب بلدهما الرهان في اختبارات القوة التي مورست ضده قرابة نصف قرن . صحيح أن الكوبيين عانوا الكثير جراء ذلك من نقص في السلع، ولكن للإنصاف فإن هذا البلد الفقير، المحاصر سجل باعتراف الأمم المتحدة أفضل المعدلات في الخدمات الصحية على المستوى العالمي، وتمتع أبناؤه بتعليم جيد، وخرجوا بميداليات الذهب والبرونز في المسابقات الرياضية الدولية .
حرر في 21 ديسمبر 2014