ينهض المجتمع الأمريكي كأحد أكثر المجتمعات العالمية تعددية . ويعتبر النظام السياسي الأمريكي النسيج المتنوع والمتعدد للمجتمع الأمريكي كإحدى مفاخره وانجازاته الحضارية التي لا يضاهيه فيها أحد . وهذه حقيقة لا يدانيها الشك، فالمجتمع الأمريكي هو في الأساس مجتمع مهاجرين، وتشجيع الهجرة إلى بلاد الأحلام، كانت – ومازالت – إحدى الدعامات الأساسية التي اعتمدت عليها الرأسمالية الأمريكية الناشئة في عملية تخليق التراكم الأوّلي لرأس المال .
وبعد أن استقر المقام للمهاجرين الطوعيين الذين “نزحوا” من بلدانهم، الأوروبية بالأساس، في بلد “الأحلام” والفرص الواعدة المسماة آنذاك بأمريكا الشمالية البريطانية، هرباً من حياة العوز والضنك في بلدانهم، وبعد أن دانت لهم السيطرة على مصادر التراكم الرأسمالي في “عالمهم الجديد”، عمدوا، اعتباراً من مطلع القرن السابع عشر، وتحديداً منذ عام ،1619 على تهجير ملايين السود قسراً من مستعمراتهم في القارة الإفريقية، لاسيما بلدان غرب إفريقيا، ومن بلدان البحر الكاريبي وأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، لاستخدامهم في أعمال السخرة في مزارعهم وتشييد مدنهم وقراهم ونواحيهم وبناء معاملهم، وذلك بموجب أنظمة استرقاق نافذة . فكانت تلك إحدى أكبر عمليات تسخير ملايين الأيدي العاملة لتعمير الأوطان في التاريخ الحديث . وكان لابد لملايين السود ( في عام 1860 كان هناك 5 .3 مليون إفريقي مستعبدين في الولايات المتحدة نتيجة لتجارة الرقيق عبر الأطلسي)، الذين طحنتهم الظروف المشدَّدة للاستغلال والعنصرية الدموية، أن ينتفضوا عديد المرات وأن يثوروا على واقعهم المزري، وكانت ذروة انتفاضاتهم حركة الحقوق المدنية التي قادها رجال استثنائيون مثل مارتن لوثر كينغ ( 15 يناير 1929- 4 أبريل 1968)، والتي ركزت نضالها على مطلب الغاء التمييز العنصري في الولايات المتحدة إلى أن اغتالته آلة النظام العنصري يوم الرابع من أبريل/ نيسان1968 .
وقد اقتضت حاجة الرأسمالية لتجديد نفسها وازالة عراقيل تقدمها، الغاء نظام التمييز العنصري بما يتيح لأرباب العمل الوصول إلى كتلة ضخمة من احتياطي قوة العمل التي توفر مرونة عالية لسوق العمل وتجعل الانتفاع بها واستئجارها بأسعار خفيضة، متاحاً تماماً كما فعلت الرأسمالية في مرحلة نشوئها الأولى حين حررت ملايين الأقنان من اقطاعيات كبار ملاك الأراضي الزراعية مفسحة المجال أمامهم لانخراطهم زرافات في المانيفاكتورات والمعامل (الأشكال الجنينية للصناعات الأساسية للرأسمالية الصاعدة) . ولم يحدث ذلك بصورة طبيعية سلسة ومتدرجة، وإنما اقتضى الأمر خوض حرب أهلية طاحنة بين ولايات الجنوب الطامحة لتوسيع رقعة نظام الرق إلى خارج ولاياتها وولايات الشمال الرافضة لهذا التوسع، راح ضحيتها أكثر من 62 ألف من الجنود وعدد غير معروف من الضحايا المدنيين . وبدأ الغاء النظام العنصري بصدور قانون الحقوق المدنية لعام 1964 الذي حظر التمييز في الأماكن العامة والعمل والنقابات العمالية، ثم قانون حق التصويت في عام 1966 ، ولكن التمييز العنصري استمر في مختلف نواحي الحياة الأمريكية .
اليوم أصبح للسود منافسون، فقد عمل رأس المال على مدى سنوات صعود ونضج الرأسمالية الأمريكية، على تهريب أكثر من 12 مليون شغيل إلى داخل الأراضي الأمريكية، معظمهم من بلدان أمريكا اللاتينية خصوصاً من المكسيك التي يبلغ طول حدودها مع الولايات المتحدة 3169 كيلومتراً . وفي حين تريد شركات وأوساط الأعمال المحسوبة على الحزب الديمقراطي اضفاء الشرعية على جزء من هؤلاء، فإن الحزب الجمهوري المعادي بتكوينه الأيديولوجي للأجانب والذي صار يقارب، إيديولوجيا، اليمين النازي الذي كانت تمثله منظمة كوك لوكس كلان، يرفض خطوات اضفاء الشرعية على الوجود الواقعي لملايين المهاجرين الأجانب في سوق العمل الأمريكية الموازية (السوق السوداء لليد العاملة)، مع أن هذا السوق الأسود هو الذي يوفر للاقتصاد الأمريكي المرونة المطلوبة في سوق العمل لكبح الأجور والتضخم ترتيباً .
ويُظهر هذا التقاذف الجدلي غير الجدي، جانباً من المطمع الجشع لنموذج الرأسمالية الأمريكية المتصف بنوع من التوحش، ليس فقط إبان مرحلة التراكم الأوّلي لرأس المال، كما هي طبيعة نشأة وتطور كل الرأسماليات، وإنما على امتداد تاريخ تطورها، حتى وإن نجحت آلتها الإعلامية والثقافية البروباغاندية الضاربة، في إخفاء هذا الجانب البشع من وجهها . لعل هذا المطمع هو الذي يُغلِّب مفاعيل انشداد النظام المؤسسي الأمريكي نحو جذوره التمييزية العنصرية التي كانت إحدى ركائز حركة البناء والتعمير وانطلاق مارد الرأسمالية الأمريكية وتفجر طاقاتها، بالنظر إلى ما وفرته لها من سوق عمل بخسة الأثمان .
وما الحوادث المتجددة والمتكررة لامتهان آدمية السود والحط من كرامتهم، وصولاً إلى قتلهم بدم بارد على أيدي بعض رموز “النظام” المتوحش، والذين ظهروا مؤخراً في صورة أفراد شرطة بيض تورطوا في أعمال قتل وحشي لفتيان سود في عدد من الولايات الأمريكية، إلا تعبيراً عن هذا الواقع الأليم الذي ما زال يعيشه السود في الولايات المتحدة رغم التقدم الهائل المحرز على صعيد تصفية آثار النظام العبودي والفصل العنصري، والغاء أشكال التفرقة كافة على أساس اللون أو العرق . فالفصل العنصري لازال قائماً على أرض الواقع برسم استمرار وجود “غيتوات” ومعازل السود في جميع الولايات الأمريكية، مثلما مازالت مجتمعات بعض ولايات الجنوب الأمريكي متخلفة بعقود من حيث نظرة سكانها العنصرية للسود، وهي مخلفات تعود إلى سنوات ما قبل وما بعد الحرب الأهلية وتتصل باعتقاد سكان الجنوب بتفوقهم على السود لكونهم بيضاً .
ولا تخدعنك أفلام هوليوود التي تحرص على إقحام السود إقحاماً، مخلاً في كثير من الأحيان، في مشاهد أفلامها لاظهار هرمونية وانسجام المجتمع الأمريكي وعدم وجود ما يعكر صفو العلاقات “الطبيعية جداً” القائمة بين البيض والسود في أمريكا . فعندما تذهب إلى هناك سيصدمك الواقع، فما ستراه ليس كما ترسمه الصورة الوردية التي تنقلها لنا هوليوود . سترى مجتمعاً منقسماً بين أحياء بيضاء وأحياء سوداء، وحتى في محلات التسوق في مناطق السود يندر أن تجد متسوقاً واحداً من ذوي البشرة البيضاء، مثلما من النادر جداً أن تجد رفقة في مكان ما تجمع البيض والسود معاً . .
وبهذا المعنى فإن أمام السود الذين يبلغ عددهم حوالي 40 مليون نسمة، بنسبة 15% تقريباً من سكان الولايات المتحدة، طريق نضالي طويل ليقطعوه ضد التمييز القائم ضدهم حتى اليوم .