المنشور

عن الليبرالية والليبرالية الجديدة والمحافظة الجديدة


 
من متابعة للإنتاج الفكري العربي المستجد، على رغم تواضعه قياساً إلى غزارته في ستينات وسبعينات القرن الماضي، سوف نلحظ بعض الومضات، وإن كانت خافتة وخجولة، لمساهمات تنظيرية تحاول إثارة نقاش جدلي توطئة، على ما تشي به نوايا أصحابها، لطرح قضية تتصل بالمقاربة الليبرالية كتركيبة اقتصادية اجتماعية يزعمون أنها صالحة لمقابلة التحدي الوجودي الحضاري الذي تواجهه مجتمعاتنا العربية في عصرنا الراهن .

إلى هنا والأمر يبدو اعتيادياً، بيد أن اقتراب القارئ المتفحص قليلاً من عروض تلك المطارحات السياسية والسوسيولوجية، والفكرية إن شئتم، سوف يميط له اللثام عن مكامن خلل فادح وجوهري فيها، ليس من المقبول تفويته أو التغاضي عنه أو التقليل من شأنه أو الاكتفاء بنبذه وهجوه كما فعل كثيرون، ولكن من دون اسهام يذكر من جانبهم في نزع التشويش الذي يعتور، عن قصد أو دون قصد، تلك الطروحات، وتصويب الرؤية الفكرية الخاصة بها كي تتم قراءتها قراءة علمية منهجية صحيحة وذلك منعاً لفوضى التأويل والتفسير والتضليل . وهذا عمل في غاية الأهمية، نظراً لأن ما تتم وستتم إشاعته في الوسط السياسي أو الفكري العربي على أساس من الخطأ أو اللبس أو التدليس، سوف يتسربل في طيات عموم الوعي النخبوي ومنه إلى الوعي الشعبي، ليزيد من حالة التشويش والتخبط التي تكتنف فهم وإدراك المعنى والمغزى والمرامي الحقيقية لما هو معروض على الجمع من “بضاعة” جديدة مزركشة تقدم تارة باسم “الليبرالية” وتارة أخرى باسم “الليبرالية الجديدة” . ولعل هذا أدعى إلى أن نضع الأمور أولاً في نصابها الصحيح، المزيل لكل ذلك اللبس والغموض المضلل والمتعلق بالمفاهيم الثلاثة ذات الصلة: الليبرالية والليبرالية الجديدة، والمحافظة الجديدة .

بإيجاز شديد، الليبرالية هي فلسفة سياسية اقتصادية اجتماعية، كانت بداية ظهورها في أوروبا في القرن السادس عشر على شكل مرئيات متناثرة تتمحور حول حرية الفرد ورضا المحكوم باعتباره شرطاً لتحقق مشروعية الحكم، وتقوم أساساً على قيمتي الحرية والمساواة . ومع أن هنالك العديد من المفكرين الأوروبيين الذين نظّروا للفلسفة الليبرالية أمثال توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو وإيمانويل كانت، إلا أنه يمكن اعتبار الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي الإنجليزي جون لوك (1632-1704) المؤسس لليبرالية كفلسفة مستقلة، فقد كانت فلسفته تقول إن للفرد حقاً طبيعياً في الحياة، والحرية، والملكية الخاصة . ووفقاً لنظرية العقد الاجتماعي، فإنه يتوجب على أي حكومة ألا تنتهك أياً من هذه الحقوق الطبيعية للفرد . ولذا فإن الليبراليين الأوروبيين الأوائل كانوا معارضين أشداء للفلسفة المحافظة التقليدية .

أما الليبرالية الجديدة، فهي مذهب اقتصادي سياسي استنته “المشيخة” الفكرية المعبرة عن مصالح رأس المال الكبير في ثلاثينات القرن الماضي بدعوات صريحة للتحرير الاقتصادي غير المقيد وخفض الإنفاق الحكومي لصالح تعزيز مواقع القطاع الخاص في الاقتصاد . ومع أنه كان في البدء 0في ثلاثينات القرن الماضي) مذهباً حاول جهابذة الليبرالية وأنصارها في أوروبا أن يجعلوا منه طريقاً ثالثاً يتوسط المسافة بين اقتصادية الليبرالية الكلاسيكية ومذهبها الأساس لآدم سميث “دعه يعمل دعه يمر” وبين التخطيط وتدخل الدولة في الاقتصاد الذي نادى به جون مينارد كينز، والذي أنقذت تطبيقاته البلدان الرأسمالية المتقدمة من أزمة الكساد العظيم (1929-1933)، إلا أن غلاة اليمين الأوروبي نجحوا رويداً رويداً في حرف الليبرالية الجديدة عن مسار الليبرالية الكلاسيكية، قبل أن يطورها اليمين الراديكالي في الولايات المتحدة بقيادة ميلتون فريدمان، وتدشن تطبيقها رسمياً بصورة عنيفة رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر والرئيس الأمريكي الراحل رونالد ريغان في سبعينات القرن الماضي . ولكن دكتاتور تشيلي الراحل الجنرال أوغستو بينوشيه الذي وصل إلى السلطة بمساعدة واشنطن في انقلاب عسكري دموي عام ،1973 كان قد سبقهما إلى ذلك بإيعاز من مستشاريه الأمريكيين .

ولما كانت الولايات المتحدة تحكم طوال تاريخها من قبل ائتلاف سياسي مؤلف من جناحين يتقاسمان السلطان والنفوذ في كافة مفاصل الدولة ومؤسساتها، ويتناوبان على حكمها، وهما الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي اللذان يعبران بطريقتين مختلفتين عن مصالح رأس المال الكبير، فكان لزاماً عليهما أن يميزا بعضهما عن بعض ولو في الشكل، بما يشمل ذلك منظوريهما الاقتصادي والسياسي المتصلين بالموضوع الذي نحن بصدده . وبما أن الحزب الديمقراطي قد ارتبط منذ تحوله الجذري تحت قيادة الرئيس فرانكلين روزفلت عام ،1932 باتجاه الإصلاحات الليبرالية، حيث أصبح ممثلاً لتيارات الليبرالية ومناصراً للنقابات العمالية والتدخل الحكومي في الاقتصاد، وتبني ومناصرة حركة الحقوق المدنية في الستينات ومعارضة بعض مناصريه للحرب الأمريكية في فيتنام، فقد كان من الطبيعي أن تقترن الليبرالية الجديدة به باعتبارها انتقالة “طبيعية” للمذهب الليبرالي للحزب و”تجديداً” لرؤيته “الحداثية”، مع أنها في الواقع تمثل ارتداداً جذرياً عن الليبرالية إياها والتحاقاً طوعياً برهط اليمين الأمريكي المتطرف في نظرته وتطبيقاته الاقتصادية – الاجتماعية، وعودة “حميدة” في واقع الأمر لمنبته الأصلي الذي كان قد انتشله منه الرئيس الراحل فرانكلين روزفلت، حيث تعود أصول الحزب إلى ما كان يسمى بالحزب الجمهوري – الديمقراطي الذي تأسس عام 1792 على يد توماس جيفرسون وجيمس ماديسون وغيرهما من معارضي النزعة “الفيدرالية” في السياسة الأمريكية، قبل أن يتسمى باسمه الحالي (الحزب الديمقراطي) تحت قيادة الرئيس آندرو جاكسون (1829-1838)، حيث تميز آنذاك بالفكر المحافظ وارتبط بحماية مؤسسة العبودية قبيل اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية عام 1862 . وكانت له شعبية كبيرة في الجنوب المحافظ امتدت من نهاية تلك الحرب حتى السبعينات من القرن العشرين . وبهذا المعنى يكون الحزب الديمقراطي قد عاد إلى جذوره الأصلية المحافظة .

وإذا كانت الليبرالية الجديدة بمثابة درجة ارتدادية للحزب الديمقراطي الأمريكي عن الليبرالية، فإن المحافظة الجديدة هي الأخرى درجة ارتدادية عن المحافظة البكر أو المحافظة الكلاسيكية للحزب الجمهوري، من حيث قطعها التام مع الليبرالية الكلاسيكية وعدائها المعلن لأسسها، مذ أعلن رواد المحافظة الجديدة وعلى رأسهم ارفينغ كريستول في ثمانينات القرن الماضي فشل وموت الليبرالية، وحيث أفسح كريستول المجال في مجلته “المصلحة العامة” للكتّاب لمهاجمة التخطيط الحكومي في الدولة الليبرالية، حيث حملوه مسؤولية ما اعتبروه أضراراً لا تحصى . . بهذا المعنى فإن الليبرالية الجديدة والمحافظة الجديدة هما وجهان لعملة واحدة.
 
حرر في 28 نوفمبر 2014