انخفاض حاد متواتر في أسعار النفط لم يكن منتظراً للاقتصادات الخليجية التي كانت موازناتها العامة وموازنات شركات قطاعاتها البترولية على وشك إنهاء سنتها المالية وفقاً للحسابات والتقديرات الموضوعة قبل بداية العام الجاري . فقد حافظ متوسط سعر برميل النفط على مدى السنتين الماضيتين على مستواه الذي راوح مئة دولار . وفجأة بدأ السعر ينحدر رويداً رويداً اعتباراً من شهر يوليو/تموز الماضي ليفقد نحو 20 دولاراً في المتوسط .
ومن الطبيعي أن يتسبب هذا الانهيار المفاجئ لسعر برميل النفط في حدوث نوع من الإرباك المالي الذي سيجد من المرجح ترجمته في التصميم القادم لتقديرات إيرادات ومصروفات موازنة 2015 لبلدان دول المجلس، حتى وإن كان بعض دول المجلس مازال في منطقة الأمان المالي من حيث عدم تجاوز الهبوط لسعر البرميل المقومة به تقديرياً إيرادات موازنة 2014 . ومن صور هذا الارتباك تلك التصريحات المتفاوتة التي صدرت من بعض الوزراء المسؤولين عن قطاع النفط والوزراء المسؤولين عن وزارات المالية الخليجيين، ففي حين اعتبر بعضهم أن هذا الهبوط كان متوقعاً وأنه لن يستدعي اتخاذ قرار من جانب أوبك لخفض سقف إنتاجها البالغ 30 مليون برميل يومياً، اعتبر آخرون أن تراجع سعر النفط لفترة قصيرة قرابة 25% له تأثير على اقتصاد بلادهم .
ولعل هذا التفاوت في تقدير تأثيرات انهيار الأسعار، ناجم عن تفاوت تقديرات إيرادات الموازنات الخليجية لعام 2014 المحتسبة على أرقام متفاوتة لسعر برميل النفط . حيث قدرت دولة الكويت إيراداتها على أساس 75 دولاراً للبرميل، وقطر 65 دولاراً للبرميل، والسعودية 88 دولاراً، والبحرين 90 دولاراً، والإمارات 70 دولاراً، وسلطنة عمان 85 دولاراً . فلا شك، والحال هذه، أن هناك قلقاً وترقباً عما ستؤول إليه الأسعار حتى نهاية السنة المالية الجارية، بما يشمل ذلك الدول التي مازالت في “منطقة الأمان” التي تشكل الحد الفاصل بين العجز المفترض والفائض المفترض المتقاطعين عند نقطة التعادل . ذلك أن الانخفاض الحاد الحالي (في حالة بلدان منطقة الأمان)، سيكون له تأثير مباشر وكبير على الفائض الذي كان متوقعاً أن تحققه ميزانية الكويت على سبيل المثال، كما عبر عن ذلك وزير ماليتها أنس الصالح (السبت 25 أكتوبر/تشرين أول 2014) في المؤتمر الصحفي الذي عقد على هامش الاجتماع المشترك لوزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية في دول مجلس التعاون الخليجي مع كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي .
بعيداً عن التأويلات السياسية التي شطح بها الكثيرون بمن فيهم أكثرهم خيالاً الكاتب في نيويورك تايمز توماس فريدمان، فإن ما جرى من انهيار في الأسعار، يعود إلى عوامل تتعلق بالأساسيات الاقتصادية Fundamentals وبعض العوامل الفنية فبعد أن كان السوق يستند حتى شهر يونيو/حزيران الماضي وما بعده بقليل على الهامش الصغير لفائض الطاقة الاحتياطي لبعض بلدان “أوبك” في الحيلولة دون تقافز سعر البرميل، فإنه الآن يشعر بوطأة الفائض في السوق والبالغ نحو 3 ملايين برميل يومياً، وهو الرقم الذي يعادل، ويا للمفارقة، حجم الطاقة الإنتاجية الاحتياطية الفائضة لدى المنتج المرجح داخل أوبك . وهذا الفائض قد يتحول إلى تخمة تزامناً مع العودة الثابتة لإنتاج النفط العراقي، حيث وصلت الصادرات النفطية العراقية في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 55 .2 مليون برميل يومياً من الحقول الجنوبية فقط، إضافة إلى ارتفاع الإنتاج من حقول الشمال رغم الأوضاع الحربية التي يعيشها العراق، وكذلك ارتفاع الإنتاج الليبي إلى 800 ألف برميل يومياً رغم الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد، ما أبطل مفعول تأثير تراجع إنتاج أنغولا ونيجيريا بواقع 120 ألف برميل يومياً في الشهر نفسه، حيث مازال إجمالي إنتاج أوبك فوق سقف الثلاثين مليون برميل يومياً المتفق عليه بواقع 720 ألف برميل .
هناك أيضاً التراجع الحاد لسوق الولايات المتحدة كأكبر مستوعب للطاقة الإنتاجية العالمية من النفط، (من 55 .12 مليون برميل يومياً في عام 2005 وهو ما كان يشكل 60% من إجمالي استهلاكها، إلى 45 .7 مليون برميل يومياً في عام 2012 نزولاً إلى 40% من إجمالي استهلاكها، وإلى 32% من استهلاكها في عام 2013)، وذلك نتيجة لارتفاع إنتاجها المحلي من النفط خصوصاً في ولايات تكساس وداكوتا الشمالية وألاسكا، حيث يقدر إنتاجها النفطي بنهاية هذا العام بنحو 4 .8 مليون برميل يومياً، ويتوقع أن يرتفع إلى 1 .9 مليون برميل يومياً في عام 2015 بحسب إدارة معلومات الطاقة الأمريكية .
لذا صار التكالب على الأسواق الصاعدة في آسيا، فكانت المضاربة بين المنتجين على عرض أسعار مخفضة للنفط لإغراء المشترين الآسيويين . ولكن بيانات قياس أداء الاقتصادين الصيني والهندي المبنية على تسجيل عدد من مؤشرات التباطؤ الاقتصادي، لا تشيع أجواءً تحفيزية لرواج عمليات الاتجار في النفط في المدى القصير، وإن كان بعض المستثمرين يتوقع بقاء حجم إمدادات النفط من أوبك إلى السوق الصينية في عام 2015 عند مستواه في عام 2014 .
أخيراً فإن ارتفاع سعر صرف الدولار الأمريكي، المقومة به صفقات بيع وشراء النفط العالمية، إلى أعلى مستوى له منذ 4 سنوات أمام أهم العملات العالمية في ضوء بيانات العمل الأمريكية الإيجابية واحتمال تقديم موعد البدء برفع أسعار الفائدة الأمريكية لموازنة النمو وتجنب الإحماء الزائد للدورة، كان لابد وأن ينعكس انخفاضاً في سعر برميل النفط .
حرر في 30 نوفمبر 2014