«أخذ الردى يحصد كل خلاني، واحدا أثر آخر» الخيّام.
جمعتنا صدفةُ الطفولةِ البريئة ونحنُ في بدايات المرحلة الإبتدائية (الصف الثاني الإبتدائي حسب النمط القديم والرابع الإبتدائي حسب النمط المستحدث). تعارفنا وتصادقنا -شيئاً فشيئاً- فيما بين الفسح المدرسية، وعبر زوايا وساحات مدرسة القضيبية الإبتدائية العامرة سنة 1960.
عبدالله؛ من القضيبية القديمة (اللّينات) ومن الطبقة المسحوقة ذاتها، كجُلِّ أبناء ذلك الزمان: صبيّ نحيل في عمرنا ومن الجيل نفسه، خجول، مؤدب، إنطوائيّ؛ يتحاشى الآخر عبر صومعته الغريبة! مشغول البال بأمورٍ جديّةٍ لا تناسب صبية من عمرنا! لكنها سنوات الجمر تلك! مستهل ستينيات القرن الآفل، حيث بدا مجتمعنا وبلدنا الصغير، وكأنه يبحث عن دوره المشروع واستقلاله المأمول. حين كان على موعد لنضالات جماهيرية شاقة من أجل الإستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية؛ بشكلٍ باتت فيه البلاد وكأنها حبلى بأعاصير اجتماعية قادمة، بعد أن ورد إلى مسمعنا – مَروية من فم الآباء- عن أحداث الخمسينيات السامقات (أضحت لاحقاً أشبه بسنوات عجاف، لم تؤتِ أُكلها!)، التي عُرفت باسم: «حركة هيئة الإتحاد الوطني /54-1956»، كأول حزب جماهيري علني وعفوي (أتذكر أحداثها كحلمٍ طفوليّ).
هكذا مرت السنوات سريعاً حتى التقينا معاً، في نشاطٍ ثقافيٍّ جديٍّ، كأعضاءٍ في اللجنة الثقافية في «نادي الولعة الثقافي» في منتصف الستينيات. كان العِبِدْ (اسمه المحبب لدي) شعلةً من النشاط، حيث كان يعد أسبوعياً ندواتٍ ثقافية وأدبية متميزة وكأنه أكاديميّ متخصّص، وغالباً ما كنتُ أدير الندوات وسجالاتها… وحيناً كان يساعدنا الصديق المشترك أحمد يوسف (الشّيبة). تيقن لي –وقتئذٍٍ- أن عبدالله قد برح الفكر القومي التقليدي العاطفي، الذي نشأ عليه تلقائياً، في مرحلة الصّبا. وأضحى الآن – بجهده الذاتيّ- منفتحاً على الفكر الإشتراكي العلمي. حدث هذا قبل التحول النوعي في الفكر السائد في بحرين الستينيات، الذي تموضع تباعاً بعد انتفاضة مارس سنة 1965 في شرقيّ العاصمة «المنامة»، المحاذية لفريق العوضية: القضيبية – القديمة بَدأً- والجديدة بعد ذلك (أرض مصطفى)، ثم الحورة (كانت فيما مضى معقلاً للقوميين العرب)، وهو ما عُرف لاحقاً بـ»المثلث الأحمر»، في الأدب السياسي البحريني المعاصر (مثلث العوضية/ القضيبية /الحورة)! يبدو أن النشاط السياسي والفكري في البحرين لا يسير على منوالٍ واحد بل عبر تعرّجاتٍ مضنيّة.
والمُشكل أن النشاط السياسي والثقافي لا يتراكم، ولكنه يتقطع قبل الأمد اللازم؛ كمشروعٍ لا يكتمل أبداً! (هذا كان رأينا المشترك دائماً). كم كانت الأنشطة البسيطة والمشروعة، المنبثقة من الأندية الصغيرة (گُلستان/ الاتحاد/ التضامن/ النور/ الفجر/ الولعة…) وعشرات من الأندية المتناثرة في مدن البحرين وقراها، المُهتمّة بأمورِ الشأن العام، والمستندة على تصوّر عقلاني؛ وهو أولوية التطور الديمقراطي السلمي للمجتمع البحريني (مشروع الدولة المدنية المؤسّساتية الحديثة)، الذي سيصبّ لا محالة في المصلحة العامة ويحصنه من التراشقات والصراعات غير المحمودة. وكم كانت المجابهة الرسمية، لتلك الأنشطة التربوية والتعبوية البسيطة، قمعيّة وحادّة (إغلاق الأندية واعتقال ناشطيها)!
هذا ما حدث لـ «أسرة الأدباء والكتاب»، التي تعرضت لضغوطٍ رسمية مستمرة، منذ انبثاقها صُدفةً، كمعجزةٍ في نهاية الستينيات (راجع الكتاب الجمعي: «سِفر الفقر والثورة» كأول إصدار من الأسرة سنة 1969). هنا أيضاً كان الراحل عبدالله خليفة أحد فرسان الميدان (هو وصديق عمره ودراسته يوسف يتيم). كنا –أنا وبضعةِ أصدقاء- من المهتمين بالأدبِ والثقافة، نحضر الندوات تباعاً، نساجل ونتداخل، نتفق في شأنٍ ونختلف في شئون عديدة، من خلال السّجالات، التي كانت تجري فيما بين مريدي ايدلوجيتين متنافستين/ التحرير والشعبية.
في ذلك الزمن الأثير والجميل المجلّل بالإنتماء الوطني فحسب (لم يكن أحدٌ يعرف مذهب وطائفة صديقه ورفيقه أو منافسه الفكري)! كان زماناً آخر، ثرياً بمعنى الكلمة! خاصة في النصف الأول من السبعينيات، حين كان اليسار البحريني يكتسح الساحة السياسية، واستطاع أن يسجّل منجزاً تاريخياً قلّ مثيله في منطقتنا العربية والاسلامية، من خلال هيمنة العناصر الوطنية الساحقة، في أول برلمان بحريني (كتلتا اليسار والوسط) نهاية 1973! فمن يستطيع أن يصدّق، من شباب الجيل الحالي، أن مترشحاً سنّياً فاز في دائرة شيعية مغلقة، وأن مترشحاً شيعيّاً فاز في دائرة سنية مغلقة؟ (أي زمان مشرق قد أفلّ، وأي زمان أسود قد أهلّ)! أضحى عبدالله وقتئذٍ سياسياً يسارياً محنّكاً، وكادراً متقدماً في حزبه! ثم جاء غول التفتيت المجتمعي، ليقضي على الصّيرورة التراكمية كَرّةً أخرى، وذلك بانقلاب الحكم على مشروعهِ، بُعيد الاستقلال (الحياة البرلمانية والدستورية)، وعدنا القهقري إلى الوراء وعاد مجتمعنا إلى الخلف، لنبدأ من الصفر مرةً أخرى.
أعتُقل عبدالله خليفة مع رفاقه في ضربة أغسطس/ آب الملتهب سنة 1975، ودفع ثمن وطنيته وانتمائه الفكري غالياً (في حدود ست سنوات سجناً)! غير أنه استفاد من وقته المعزول في القراءة المُركّزة والكتابة المتأنّية، ووضع المشاريع الروائية والتاريخية اللآحقة… بجانب المراجعة الفكرية ضمن عدد محدود من رفاقه، داخل السجن. غير أن الأجمل أن عبدالله ظل وفياً لفكره الأصل، ونجا من موجة اللّبرلة، التي أغرّت الآخرين! ولو أنه أعاد الاعتبار لحركة التاريخ الموضوعية وهو ينآى عن الصَّبينة اليسارية والمواقف الشعبوية الحادة، المترافقة عادةً مع حماسِ الصِّبا الأول، مدركاً بعمق سمة المرحلة الضرورية -موضوعياً- للمنظومة الليبرالية في البحرين القادمة حتماً، بعد أن يضعف التيار الديني، المُهيمن في الوقت الحاضر، ويعيد حساباته المتعلقة بضرورة عصرنة وتطوير برنامجه الحالي المركون على حسابات خاطئة (غيبية/ غير دنيوية) غير عقلانية! متفهماً (الراحل عبدالله) في الوقت ذاته صعوبة آفاق الفكر اللّيبرالي والحداثي عامة، وإشكالية انبثاق البرجوازية الحرة (الضعيفة أصلاً في دنيا العرب وفي التخوم الكليلة)، بسبب بيئةٍ تتّسم بسيادة اقتصاد ريعي خدمي/ غير إنتاجي (استهلاكي كسول). وبهيمنةِ موروثٍ عائليّ/ إقطاعيّ/ قبليّ، ينطلق من مفهوم الرّاعي والرّعيّة والمكرمات… إلخ!
كنا، عندما نلتقي صدفةً، نتفق في أغلب التحليلات والرؤى والظروف الصعبة، المحيطة ببلدنا الصغير كونه ضحية الجغرافيا والتاريخ! بجانب إدراكنا تدني درجة المرتجى، المأمول من سقف المطالب، ومحدودية الخيارات المتوفرة للحكم، الأمر الذي لا يدركه الكثيرون من النّخب السياسية!
وكنا نختلف بالطبع في أمورٍ شتّى (أغلبها نظرية). غير أن همّنا الأكبر، منذ أحداث 2011 الملتبسة، أضحى الانشطار المجتمعيّ الخطير (بغض النظر عن المسبّبات)، وما كان يؤرقنا خصوصاً، تراجع الدور الرائد للانتلجنسيا في البحرين، وتآكل زادها الفكري، الأمر الذي تسبّب في بروزِ مواقف ضبابيّة وعَصبيّة/ عاطفيّة، مبنية أساساً على آليةِ الفعلِ وردِّ الفعل، وعلى «لعبةِ كسرِ العظم» الجاريةِ بين قطبيّ الرّحى! ولعل أكثر ما كان يكدرنا هو ارتهان ما بقي من التيار الديمقراطي والعلماني (اليساري والعروبي) لقوى الإسلام السياسي الشيعي؛ المتشنّجة والمنفلتة من عقالها، متخندقين معاً في متراسِ ما يسمى بالمعارضة «المجلجلة»، المتكئة على نظرية «الغلبة»! والأدهى أن هذه المعارضة تنعت «الأغلبية الصامتة» والعريضة، من المكوّن الآخر من الناس بـ «الموالاة» /أي السلطويين! هذا بالطبع مع تفهمنا وتقديرنا للمطاليب المشروعة، التي ترفعها المعارضة هذه من جهة، وإدراكنا لخطل تكتيك «الهروب إلى الأمام» المتجسد في تهرّب الدولة من الاستحقاقات الضرورية من جهة أخرى، لرأب الصّدع بين الأفرقاء الأقوياء والتوقيف الفوري للنزيف والانشطار الاجتماعيين، وإحياء مشروع جديد يخرج البلد من هذا المأزق الخطير؛ بل «المتاهة» -أشبه بالثقب الكونيّ الأسود- التي قد تقضي على الأخضر واليابس، إن تُرك الحبل على الجرار فترة أطول، بلا تدخل فوريّ من أصحاب القرار! هذا كان محتوى رأي وهواجس المُفكّر والأديب الكبير؛ الراحل عبدالله خليفة.