إنها مثال للمرأة الدؤوبة، الصبورة، الطموحة التي لا تكل ولا تمل من العمل بشتى السبل لتسلق سلم السلطة وصولاً إلى هدفها المبيت كرسي الرئاسة في البيت الأبيض. ما بين تخرجها من سلك المحاماة في كلية بيل للقانون عام 1973 واحتلالها مقعد الشريك في شركة “روز للمحاماة” في عام 1979 ست سنوات، وإدراجها مرتين على قائمة أكثر مائة محامي أمريكي نفوذاً. مع ملاحظة انها أصبحت السيدة الأولى لولاية اركنساس من عام 1979 حتى عام 1992، بعد أن كانت تزوجت من حاكمها بيل كلينتون في عام 1975.. كانت خلالها عضواً في مجلس إدارة أكبر الشركات الأمريكية “وال مارت” ومجالس إدارات شركات أخرى. وبعد عامين من ذلك، أي في عام 1993 أصبحت السيدة الأولى لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون لولايتين أي حتى عام 2001. وفي نفس العام احتلت مقعد عضو مجلس الشيوخ المتقاعد دانييل موينهان بعد فوزها في انتخابات نوفمبر 2000 الجزئية على المرشح الجمهوري ريك لازيو، رغم انه لا علاقة تربطها بولاية نيويورك. ومع ذلك فإن عائلة كلينتون اشترت منزلاً في نيويورك وانتقلت للإقامة هناك في عام 2009، أي مذ قررت هيلاري خوض المنافسة على الكرسي الشاغر. لم تكتف السيدة كلينتون بهذا الخط الصعودي الصاروخي، فتقدمت لترشيح نفسها عن الحزب الديمقراطي لمنصب الرئاسة في عام 2008 أمام المرشح الآخر عن نفس الحزب باراك أوباما الذي تفوق عليها وتأهل لخوض الانتخابات أمام مرشح الحزب الجمهوري جون ماكين. وبعد فوز أوباما على ماكين استعان بها لشغل منصب وزيرة الخارجية في يناير 2009.
ومع ذلك لم يفتر هوسها بالسلطة رغم كل هذا “المجد السلطوي” الذي حظيت به في حياتها، وتغني إعلام “المؤسسة” بنموذجها كأول امرأة أمريكية تفوز بمقعد عضوية الكونجرس عن ولاية نيويورك، وأول امرأة أمريكية تترشح لمنصب رئاسة الجمهورية. فالسيدة كلينتون، مثلها مثل نيكولا سركوزي الرئيس الفرنسي السابق الغارق في فضائحه المالية والنسائية، تطمح لمعاودة كرة الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة.
وفي سعيها لتحقيق هذا الهدف، تواصل السيدة كلينتون، بحسب أحد مساعديها السابقين، نسج المزيد من العلاقات مع بارونات وول ستريت، بما في ذلك بنك جولدمان ساكس المتورط في الأزمة المالية التي ضربت البلاد في عام 2008، حيث تتقاضى منه 200 ألف دولار نظير كل مشاركة لها في فعاليات المؤسسة المالية الأمريكية العملاقة. “هيلاري تعمل مع غولدمان ساكس وتحب الحرب”، يقول مساعدها دون أن يخفي إعجابه بها كامرأة صقرة تجب كثيراً من صقور الجمهوريين الحربيين. فلقد أيدت قرارات الحرب في أفغانستان والعراق، وفي أغسطس الماضي انتقدت ما اعتبرته ضعف الرئيس أوباما في استخدام القوة العسكرية في السياسة الخارجية. ويا للغرابة فلقد دأب الصحفي في نيويورك تايمز مارك لاندلر منذ عام 2008 على اعتبارها صقراً أكثر شراسةً من أوباما، في إيماءة منه إلى حربه الجوية التي يشنها بطائرات “درون” على تجمعات مقاتلي القاعدة في باكستان واليمن والصومال.
إثباتاً لضراوة الصقر الذي تمثله الشخصية السياسية للسيدة كلينتون، تقول أوساط الإعلام الموازي لإعلام “المؤسسة”، بأن السيدة كلينتون ختمت عهدها كوزيرة للخارجية في عام 2013 باعتبارها الوزير الذي عسكر الوزارة في عمرها الممتد لمائتي سنة، حيث كانت تصريحاتها الحربية (Bellicose Statements) أكثر من تصريحات وزير الدفاع السابق روبرت غيتس، وان بعض موظفي وزارتها اعتبروا تصريحاتها العدوانية مضرة بمهماتهم الدبلوماسية، وان مواقفها هذه دفعت كل من الرئيس أوباما ووزير الدفاع المترددين، لشن الحرب ضد النظام الليبي بقيادة الرئيس الراحل معمر القذافي وإطاحته، مع أن دكتاتور ليبيا الراحل كان قد تخلى طوعاً عن أسلحة الدمار الشامل وأعاد العلاقات مع الغرب وحقوق الامتياز لشركاته النفطية. فمهاجمة ليبيا من خلال الحرب غير المعلنة (Undeclared war)، كانت فكرة السيدة كلينتون على ما تذهب تلك الأوساط.
إنه لتحول درامي ذلك الذي رسمت به معالم طريق حياتها .. من ناشطة شبابية في صفوف الحركة المناهضة للحرب الأمريكية في فيتنام إلى صقر حربي. هل هو الطموح الشخصي الطاغي المودي بصاحبه إلى مجاهل الغيب، صعوداً أو هبوطاً؟ أم هي تلك العقدة التي تلازمها كلما سمعت همساً أو لمزاً أو تصريحاً ينال من طبيعة شخصيتها النسائية الرخوة، فتندفع لإبعاد تلك الشبهة من طريق المسارعة لاتخاذ مواقف حربية صارمة دفعاً لتلك التهمة. وفور دخولها الكونجرس في عام 2000 انضمت إلى لجنة خدمات القوات المسلحة في المجلس، وفي هذه اللجنة تفوقت على نظيرها الصقر الحربي العضو عن الحزب الجمهوري جون ماكين، فهي بالكاد اعترضت على أي عقد تسليح للبنتاغون، ولاذت بالصمت إزاء مخلفات الصناعة الحربية، وإزاء حالات التزييف والتزوير في التعاقدات واستغلال الجنرالات لنفوذهم وسطوتهم.
وحين ألقت خطاباً في الأكاديمية البحرية الأمريكية في عام 2012، دعت بكلمات حماسية قاطعة إلى ضرورة تعزيز الانتشار العسكري الأمريكي، بما يشمل ذلك السفن والطائرات الحربية وعديد القوات، في بلدان شرق آسيا المجاورة للصين، فكان رد الصين حينها على هذا الاستفزاز، زيادة موازنتها العسكرية. وحين جابت الولايات الأمريكية للترويج لكتابها “الخيارات الصعبة”، عمدت لإظهار شخصيتها الحربية كمرشح للرئاسة الأمريكية القادمة، مصممة على تعزيز التوجهات الحربية في السياسة الخارجية وتدعيم مواقع البيزنس الكبير.
في عام 2008 انتخبت الولايات المتحدة أول رئيس أسود منذ تأسيس الجمهورية. واليوم تندفع هيلاري كلينتون، مدعومة ببعض مراكز قوى المجتمع الصناعية الحربي الذي تتخادم معه، والذي كان الرئيس الأمريكي الأسبق آيزنهاور حذر من مخاطره على الحياة والديمقراطية الأمريكية، ومدعومة أيضاً من مواقع نافذة في وول ستريت، لأن تصبح في عام 2016 أول امرأة تتربع على كرسي الرئاسة الأمريكية. فهي وإن حاولت مراوغة حقيقة هذا الطموح الجارف بالتصريح عن عدم جاهزيتها بعد للإجابة عما إذا كانت سترشح نفسها للانتخابات الرئاسية القادمة، إلا أنها أعربت في مقابلة مع مجلة شتيرن الألمانية نشرت يوم 15 يونيه/حزيران الماضي، عن أملها في أن “تتمكن المرأة في الولايات المتحدة من أن تكون رئيسة للبلاد، وسأفعل ما بوسعي لحدوث ذلك”!
حرر في 7 نوفمبر 2014