في أعقاب تفجر الأحداث في العديد من الأقطار العربية قبل ما يزيد على ثلاث سنوات، برزت بشكل واضح مسئولية السلطات الحاكمة عن واقع «انحلال» و»تفسخ» الدولة الوطنية في هذه الأقطار، بعد تأكد عجزها وفشلها في احتواء ودمج مختلف الفئات والمكونات السياسية والاجتماعية والعرقية، وإصرار هذه السلطات على تجميع السلطة في أيدي قلة قليلة لا تمثل غالبية المجتمع، واعتماد أساليب القمع والعنف والإقصاء للجم أصوات المعارضة من أجل استمرار الاستحواذ على كل السلطات.
ومسئولية الأنظمة الحاكمة عن ما آلت إليه الأوضاع في بلدانها تتوزع في اتجاهين، الأول من خلال قيامها بمأسسة عملية الإقصاء والتهميش لقوى ومكونات أساسية وحرمانها من أبسط حقوقها والعمل على تجذير عملية الإقصاء هذه في بنية المجتمع، عن طريق اتباع سياسة «فرق تسد». أما الاتجاه الثاني فهو رفض هذه السلطات تقديم أية تنازلات طوعية أو مشاركة القوى السياسية والمجتمعية في صنع القرار السياسي والوطني، ورفضها القيام بأية إصلاحات سياسية وديمقراطية حقيقية.
ومن دون أدنى شك، فإن بداية أحداث البحرين في عام 2011 جاء استجابةً لأصداء التحركات الشعبية العربية، وتعبيراً عن اختيار مسيرة التغيير عبر الديمقراطية وأدواتها، من انتخاب وحرية رأي وتعبير واحترام حقوق الإنسان وغيرها.
هذا الاستهلال ضروري جداً ومهم لفهم حقيقة موقف القوى السياسية الوطنية المعارضة، وتقييمه تقييماً صحيحاً وعادلاً، ليس بالنسبة إلى عملية الانتخابات التي قرّرت مقاطعتها، وإنما بالنسبة إلى الوضع السياسي العام في البلد وما وصل إليه من تأزم واحتقان على كل المستويات السياسية والاجتماعية والأمنية، منذ بداية أزمة فبراير 2011. ومن أجل الوقوف على طبيعة المشروع السياسي الذي قدّمته المعارضة وسعت من خلاله للتوصل إلى توافق وطني عبر حوار جاد وحقيقي، وهو المشروع الذي تشكّل فيه المسألة الانتخابية بنداً واحداً، بينما تفاصيله ومحتوياته الأخرى جميعها ترمي إلى إيجاد حل شامل للأزمة، ووضع البلد على مسار التحول الديمقراطي الصحيح والقادر على إخراجه من حال التفرد، وتحقيق قدر معقول ومقبول من المشاركة ومن حقوق المواطنين كافة.
ولكن ما حصل هو أن السلطة تعمّدت حرف الصراع السياسي عن طبيعته إلى مسارات طائفية، ونجحت عبر سياسة التحريض الإعلامي وبث الكراهية في جعل الإستقطابات المذهبية عائقاً كبيراً أمام أية حلول أو مبادرات وطنية. فقد كان من الممكن احتواء الأحداث في بداية انطلاق شرارتها لولا الإصرار على اعتماد الخيار الأمني أسلوباً وحيداً، وهو ما قاد إلى تلك الفظائع والانتهاكات للحرمات ولحقوق الإنسان التي سجّلها تقرير «بسيوني».
ومع كل هذه الأثمان الباهظة والبالغة القسوة التي دفعها المواطن والوطن من وحدته وتماسك بنيته المجتمعية، فقد كان هناك مجالٌ وفرصةٌ للوصول إلى صيغة وطنية توافقية تخرج البلد من الوضع المحتقن خلال جولات ومراحل «الحوار» التي حصلت وانتهت إلى لا شي، ما جعل البلد يعيش في دائرة مغلقة من الأزمات وحالة من الفراغ والعدم السياسي التي كشفت عن أن آخر حسابات السلطة على ما يبدو، التوصل إلى حل سياسي مع المعارضة السياسية. كما كشفت عن أن ما كان يجري ليس حواراً حقيقياً، إنما هو مجرد «مناقشات» أو «ثرثرات» يُراد منها تقطيع الوقت واستثمارها إعلامياً في مخاطبة الخارج، دون أي اكتراث بالأوضاع في الداخل التي كانت تشهد مع مرور الوقت مزيداً من التصعيد والتوتر السياسي والأمني.
فأي حوار جاد وحقيقي كان حتماً سيقود إلى عملية تفاوضية، وهذا التفاوض سوف يؤدي إلى «اتفاق» محدّد إذا ما حسُنت النوايا وتوفّرت الإرادة السياسية عند كل الأطراف التي ستجد نفسها ملزمةً بتقديم تنازلات متبادلة لإنجاز أي اتفاق، ولكن المؤسف أن هذا لم يحصل في كل محطات الحوار، لذلك كانت الحصيلة أشبه بالعدم.
لذلك علينا أن لا نُصاب بالدهشة من المآل الذي انتهت إليه الأوضاع في البلد أخيراً، بعد أن أقفلت السلطة أبواب الحوار بصورةٍ نهائية، وعادت بالأزمة إلى مربع الصفر كما يقال، حيث افترقت وبصورة بعيدة توجهات وخيارات السلطة عن خيارات القوى السياسية المعارضة، خصوصاً بعد أن قررت المضي في إجراء العملية الانتخابية دون تهيئة الأجواء، متجاهلةً بشكل واضح مبدأ مهماً وهو أن حفظ السلم الأهلي يجب أن يشكل أسبقية ملحة على أي قرار أو إجراء يمكن أن تقدم عليه.
لذلك نحن اليوم مرةً أخرى أمام جدلية المقاطعة والمشاركة التي تذكرنا بأجواء العام 2002، مع اختلاف الظروف والمعطيات محلياً وعربياً وإقليمياً، وتعود معها حالة الاستقطاب والانقسامات الحادة التي تضرب بنية المجتمع. ومعها أيضاً يطل شبح أعمال الحرق والتخريب والفوضى التي هي مرفوضة ومدانة بكل المعايير الوطنية والأخلاقية والإنسانية مهما كانت الجهة التي تقف خلفها.
فالذهاب إلى الانتخابات وسط أجواء متوترة ومشحونة لا يمكن أن يساعد على تأهيل الوضع السياسي المضطرب، ولا يمكن أن يجلب الاستقرار المنشود. فقد كان أمام السلطة وبيدها الكثير من الآليات السياسية والإجرائية التي تستطيع بها نزع فتيل الأزمة ومنع انفجاره مجدّداً. إحدى هذه الآليات استمرار الحوار مهما كانت العقبات والإصرار على تحقيق توافق سياسي حول سقف الإصلاحات السياسية والخطوات الديمقراطية الممكنة بشكل عام، وكذلك التوافق حول القوانين التنظيمية والإجرائية ذات الصلة بالعملية الانتخابية بشكل خاص. فهذه الأخيرة ليست سوى وسيلة أو خطوة إجرائية لإنجاز هدف أشمل على طريق الديمقراطية.
من هذه القوانين التي كان يجب الاتفاق عليها -على سبيل المثال لا الحصر- تلك المتعلقة بتوزيع ورسم الدوائر الانتخابية، وكذلك مسألة إسناد مهمة الإشراف على العملية الانتخابية ونزاهتها إلى هيئة مستقلة ومحايدة، واقتصار دور الحكومة ومؤسساتها على الجانب التقني لتنظيم هذه الانتخابات. فقد كان من شأن التوافق على هذه المسائل أن ينزع بوادر الشكوك التي تحوم حول الكثير من الجوانب الخاصة بالانتخابات، مثل دور السلطة في التحكم بأدوات هذه العملية والتلاعب بمخرجاتها. كذلك مسألة توظيف المال السياسي في خلق واقع انتخابي يخدم أهدافها فقط، إضافةً إلى مشاركة المجنّسين ودور المراكز العامة في هذه العملية.
فتجاوز مثل هذه القضايا الشائكة عبر اتفاق معلن، كان سيساعد حتماً على ضبط خيارات وتوجهات المعارضة واتخاذها منحى مغايراً تماماً. ولكن الواقع المؤسف أن السلطة أصرت على المضي في سياساتها بصورة منفردة، ودون أي اعتبار لرؤى المعارضة التي كانت تتحاور معها، وأبدت الكثير من المرونة من أجل التوصل إلى اتفاق «اللحظة الأخيرة» عبر البحث عن قواسم مشتركة في قراءة وتفسير مضامين النقاط الخمس التي جرى طرحها بشكل مربك وعاجل كما رأينا، ثم جرى فرضها على المعارضة للقبول بها كأمر واقع، وفي إطار رؤية أحادية للسلطة التي كانت تسعى إلى اختزال كل الأزمة وتداعياتها السلبية في مسألة الانتخابات فقط. بينما لقوى المعارضة وجهة نظر تتلخص في اعتبار العملية الانتخابية مجرد وسيلة أو بوابة للمشاركة السياسية الفعلية لإنتاج سلطة تشريعية تتحقق معها الإرادة الشعبية، تكون قادرةً على مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية.
وهذه الرؤية ترى العملية الانتخابية مجرد محطةٍ لنقل البلد إلى مرحلة جديدة، تتجاوز المرحلة القائمة بكل سلبياتها. وطبعاً هذا أمر غير قابل للتحقق دون اقتناع السلطة بحاجة البلد إلى تسوية شاملة وعادلة للأزمة، وليس مجرد خطوات تجميلية أو ترقيعية.
وكما يرى ويلمس الجميع فإن المعطيات والوقائع على الأرض لا تسمح بوجود سوى مؤسسة صورية تحاصرها العديد من القيود والإجراءات التي يستحيل معها صدور أي تشريع أو قرار لا يحمل ختم موافقة الحكومة عليها.
وقد جاءت التشريعات الأخيرة والمراسيم الإضافية لتشديد قبضة السلطة على هذه المؤسسة بصورة شاملة، وإحكام الحصار عليها، وهو ما يعني إفراغ هذه المؤسسة التشريعية من أي محتوى ديمقراطي تعدّدي، وإبقاء البعد الطائفي في مسارها ومخرجاتها.
لكل هذه الأسباب وغيرها كان قرار القوى السياسية المعارضة بعدم جدوى التعاطي مع هذه العملية، لا ترشحاً ولا انتخاباً، نظراً لاستحالة توافرها على ما يصب في مصلحة البلد ومصالح مواطنيه.
وربما هناك من يظن أو يرى في هذا الخيار خطأً أو ضرراً، ولكن المعارضة يقيناً، قد تجاوزت بقرار المقاطعة خطأ أكبر وضرراً أسوأ. وسوف لن يطول الوقت لاكتشاف هذه الحقيقة، ولعل المستقبل يكون خير شاهد على مدى صوابية ومبدئية هذا القرار.
صحيفة الوسط البحرينية
الإثنين 03 نوفمبر 2014م