بتاريخ 9 يوليو 2014 أصدرت المحكمة الدستورية قراراً قضى بمطابقة المادة
(5) مكرر من قانون البلديات المضافة بمقتضى المادة الثانية من مشروع قانون
بتعديل بعض أحكام قانون البلديات، الصادر بالمرسوم بقانون رقم (35) لسنة
2001 للدستور، فيما عدا عبارة «لا يعفى أمين العاصمة أو نائبه أو أي من
أعضاء مجلس الأمانة من منصبه إلا بمرسوم» الواردة بالبند (2) منها.
وقد
صدر هذا القانون بناء على قرار المحكمة الدستورية فنص على إضافة المادة
(5) مكرر قضت في البند (1) منها على أنه «يشكل مجلس أمانة العاصمة من عدد
لا يقل عن عشرة أعضاء يتم تعيينهم بمرسوم ملكي بمن فيهم الرئيس ونائب
الرئيس من بين الأعضاء المنتخبين بمؤسسات المجتمع المدني ذات العلاقة
بالعمل البلدي ومن ذوي الخبرة والاختصاص من القاطنين في محافظة العاصمة
للمدة ذاتها المقررة للمجالس البلدية الأخرى، ويجوز إعادة تعيين من انتهت
مدة عضويته، ويشترط في أعضاء المجلس شروط أعضاء المجلس البلدي ذاتها».
وإذا
كنا نحترم القرار الصادر من المحكمة الدستورية القاضي بدستورية هذه
المادة، فإن ذلك يعطينا الحق في إطار حرية الرأي والتعبير المكفولة
دستورياً، أن نبدي رأينا من الناحية الدستورية والقانونية في الأسباب التي
ركنت إليها هذه المحكمة في إصدار هذا القرار وفيما استندت عليه من مواد
دستورية، أبرزها المواد (50 / البند أ) و(1/ البند هـ) و(43)، والمادة
الأولى من قانون مباشرة الحقوق السياسية، ونشير إلى رأينا فيما توصلت إليه
المحكمة في محاور أو حلقات ثلاث كما يلي:
المادة (50/ البند أ) من الدستور واستقلال هيئات الإدارة البلدية.
أوضحت
المحكمة الدستورية في حيثيات قرارها أنها استظهرت إرادة ومقاصد المشرع
الدستوري في المادة (50 البند أ) التي نصت أن «ينظم القانون المؤسسات
العامة وهيئات الإدارة البلدية بما يكفل لها الاستقلال في ظل توجيه الدولة
ورقابتها، وبما يكفل لهيئات الإدارة البلدية إدارة المرافق ذات الطابع
المحلي التي تدخل في نطاقها والرقابة عليها»، ومن المذكرة التفسيرية
للدستور التي لم تورد في ثناياها تفسيراً للمادة 50 من الدستور من حيث أداة
تشكيل هيئات الإدارة البلدية بالانتخاب أم بغيره، وصولاً إلى نتيجة مفادها
أن الدستور لم يميّز من حيث أداة التشكيل بين هيئات اللامركزية الإقليمية
وهيئات اللامركزية المرفقية، إذ جعل من هيئات الإدارة البلدية صنواً
للمؤسسات العامة بهذا الشأن قارناً بينهما في متن المادة 50 منه، محيلاً
بشأن تنظيمها إلى القانون. ولم يغل الدستور من ثم يد المشرع عن المفاضلة
بين البدائل في شأن أداة تشكيلها، إذ لم يوجب في ذلك كله أن يكون الانتخاب
قوامه حصراً، والتمثيل الشعبي أساسها حكماً، مقتفياً المسلك ذاته الذي
اعتمده دستور سنة 1973. وهي شرعةٌ مؤداها أن هيئات الإدارة البلدية تتمخض
شكلاً من أشكال اللامركزية الإدارية، شأنها في ذلك -من حيث كونها هيئات
إدارة بصريح عبارة الدستور- شأن المؤسسات العامة. يظاهر ذلك كله ويسانده
إيراد الدستور للمادة 50 منه آنفة البيان ضمن أحكام الفصل الثاني منه
الموسوم بـ «السلطة التنفيذية. مجلس الوزراء – الوزراء».
التعيين أهدر قيمة الاستقلال
على
الرغم من صحة ما توصلت إليه المحكمة الدستورية من حيث أن الدستور في
المادة (50 البند أ) لم يحدد أداة تشكيل هيئات الإدارة البلدية بالانتخاب
أو بالتعيين، ولم تورد المذكرة التفسيرية للدستور تفسيراً لذلك، غير أن نص
المادة سالفة الذكر قد نصت بوضوح على ضرورة وأهمية استقلال هيئات الإدارة
البلدية، وأن هذا الاستقلال لا يتحقق في الواقع إلا إذا تم اختيار أعضاء
هذه الهيئات بطريق الانتخاب، والقول بغير ذلك يسقط عن هذه الهيئات صفته
اللامركزية من أساسها، إذ لا يمكن اعتبار المجالس البلدية مستقلةً إلا إذا
تشكلت بواسطة هيئة الناخبين في المحافظة، وأن الأخذ بطريقة التعيين لابد أن
ينتهي إلى إهدار كل قيمة جدية لهذا الاستقلال، وذلك بحكم ارتباط هؤلاء
الأعضاء المعينين في علاقة تبعية بالسلطة المركزية التي عيّنتهم، وهو ما
يؤدي في الأعم الأغلب إلى قيام الأعضاء المعينين لتسيير شئون البلدية
بالشكل الذي يرضي السلطة المركزية.
وترتيباً على ذلك فأنه على رغم أن
القانون بتعديل بعض أحكام قانون البلديات الصادر بالمرسوم بقانون رقم (35)
لسنة 2001 قد نص في المادة (4): بند (أ): على أن مجلس الأمانة يمارس ذات
سلطة المجالس البلدية المنتخبة وهي سلطة إصدار اللوائح والقرارات والأوامر
ومراقبة كل ذلك في حدود اختصاصات كل منها». فإن تعيين أمانة عامة للعاصمة
بدلاً من المجلس البلدي مهما كان شكله، سينال بالضرورة مما نص عليه الدستور
في المادة (50 /أ) من ضمانة الاستقلال، ذلك أن الانتخاب يمثل عنصراً
أساسياً في هذا الخصوص باعتباره أسلوباً ديمقراطياً في تكوين المجالس
البلدية.
المحكمة جزأت ضمانة الاستقلال
وعلى هذا الأساس فإن
المحكمة الدستورية حين استظهرت إرادة المشروع الدستوري في المادة (50 /أ)
فقررت دستورية المادة (5) مكرر من قانون البلديات المضافة بمقتضى المادة
الثانية من مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون البلديات، والتي تقضي
بتعيين أمانة عامة للعاصمة دون النظر إلى ضمانة الاستقلال المقررة دستورياً
في المادة الدستورية سالفة البيان، لكنها في ذات الوقت قررت دون عوار
استناداً على ذات ضمانة الاستقلال عدم دستورية ما نص عليه البند الثاني من
المادة (5) مكرر المعروضة على المحكمة الذي قضى بأنه «لا يعفى أمين العاصمة
أو نائبه أو أي من أعضاء مجلس الأمانة من منصبه إلا بمرسوم»، فاعتبرت
المحكمة هذه العبارة بأنها تؤدي إلى إطلاق يد السلطة التنفيذية -دون عاصم-
في إعفاء أعضاء مجلس الأمانة، وتخل بضمانة الاستقلال المقرّرة دستورياً
لأعضاء هيئات الإدارة البلدية، وتخالف المادة (50) من الدستور. تكون قد
جزأت ضمانة الاستقلال التي كفلها الدستور لهيئات الإدارة البلدية واستظهرت
إرادة المشرّع الدستوري على نحو يخالف ما قصده وابتغاه من ضمانة الاستقلال.
التعديل نال من استقلال الهيئات البلدية
وإذا
كان العمل البلدي يحظى بقدر كبير من الاهتمام في أوساط الناس باعتباره
يتعلق بخدماتهم الضرورية، فالبلديات وإن كانت لا تتمتع باختصاص تشريعي، غير
أنها تمارس اختصاصات خدمية واسعة وكبيرة لصيقة بالمواطنين.
وإذا كان
المشرّع الدستوري قد أولى أهمية بالغة بهيئات الإدارة البلدية ونصّ على أن
القانون ينظّم هذه الهيئات ومنها المجالس البلدية بما يكفل لها الاستقلال
في ظل رقابة وتوجيه الدولة حسب نص المادة (50 البند أ)، وهو استقلال نسبي،
نسبي بمعنى أن هيئات البلدية تظل خاضعةً لرقابة وتوجيه الدولة بنص الدستور،
غير أن هذه النسبية لا تعني على الإطلاق أن تكون وصاية الدولة على العمل
البلدي وصاية صارمة، بحيث يتم إلغاء حق الانتخاب والترشيح للمجالس
البلدية، ويحرم المواطنون في محافظة العاصمة من هذا الحق على النحو الذي
نصّ عليه التعديل، ذلك أن تعيين أمانة عامة مهما كانت أداة هذا التعيين
ينال من الاستقلالية التي نص عليها الدستور في المادة المذكورة، ولا ينال
من رأينا هذا ما توصلت إليه المحكمة الدستورية تدعيماً ومساندةً لإقرارها
هو (إيراد الدستور للمادة 50 ضمن أحكام الفصل الثاني منه الموسوم بـ
«السلطة التنفيذية. مجلس الوزراء – الوزراء»)، ذلك أن المشرع الدستوري لم
يكن يقصد من إيراد نص المادة المذكور ضمن الفصل المشار إليه تبعية هيئات
البلدية المركزية للسلطة التنفيذية بحيث يحق لها تعيين أعضائها، بل أكّد
على استقلالها في ظل رقابة وتوجيه الدولة، ولعل هذه الرقابة هو ما جعل
المشرّع الدستوري أن يرد نص المادة 50 ضمن الفصل المتعلق بالسلطة
التنفيذية. (يتبع).