في مقال الجمعة الماضية أوضحنا كيف تحولت العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة، وبمعيتها حليفاتها الغربيات، وبين ما تسمى دولة الخلافة (دولة العراق والشام – داعش سابقا) من علاقة تحاذر الاشتباك التي استمرت زهاء ثمان سنوات، منذ انشاء داعش في 2006، الى علاقة مجابهة تفرض الاشتباك القتالي الضاري والمميت بين الجانبين إثر تجرؤ مليشيا داعش على تخطي الخطوط الحمر ومحاولة غزو اقليم كردستان، ومن بعد اقدامها على جريمة قطع رأس الصحافي الامريكي جيمس فولي مساء الثلاثاء 12 أغسطس/آب 2014، وهو ما أدى الى نهوض هذه القضية فجأة لتغدو قضية عالمية مصيرية، للمجتمعات ومكوناتها الأثنية والدينية والمذهبية والقومية، كما للحضارة الكونية….
وحسبنا أن تلك الانعطافة السريعة في الأحداث هي بالذات التي تفسر سرعة قيام لندن، بإيعاز من واشنطن باعداد مشروع قرار حمل رقم 2170 قُدم الى مجلس الأمن الذي لم يتأخر في التصويت عليه في 15 أغسطس 2014 بالاجماع وتحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز استخدام القوة لتنفيذه في نزع سلاح وتفكيك تنظيم داعش وجبهة النصرة وجميع الكيانات والأفراد المرتبطين بالقاعدة بشكل فوري.
فهل هو إيذانٌ بتخلي واشنطن عن سياسة الاحتواء للتنظيمات الارهابية وفي مقدمتها تنظيم داعش، والتحول الى سياسة قوامها إزاحتها من المشهد تماما باستخدام أسلوب قائد قوات الحلفاء في عاصفة الصحراء لعام 1991 الجنرال الامريكي الراحل نورمان شوارزكوف والمتمثل في “اقطع واضرب”، وذلك بتقطيع أوصال مليشيات التنظيم وضربها وتفتيتها على الجبهتين العراقية والسورية؟!
هذا على الأقل ما تفترضه ظواهر التحركات الدبلوماسية والسياسية الأمريكية والمواقف اللفظية المكرسة للتحشيد الاقليمي والدولي ضد داعش، واستعداد واشنطن العلني للتخلي عن بعض ثوابت سياستها الخارجية بالانتقال من النقيض الى النقيض..من العمل بشتى السبل لاسقاط النظام السوري الى الانخراط في اتصالات غير مباشرة معه للتنسيق المشترك ضد داعش، وذلك بعد التحدي المستفز للتنظيم الارهابي المتمثل في عملية الذبح البربرية لجيمس فولي، ولكأننا أمام إعادة إنتاج تاريخية للظروف والملابسات التي أحاطت باندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918). هنا اندلعت الحرب إثر أزمة دبلوماسية نشبت حينما أعلنت الإمبراطورية النمساوية المجرية الحرب على مملكة صربيا بسبب اغتيال ولي عهد النمسا الأرشيدوق فرانز فرديناند مع زوجته من قبل طالب صربي يدعى غافريلو برينسيب أثناء زيارتهما لسراييفو في 28 يونيو 1914. وهو ما ترتب عليه قيام الإمبراطورية النمساوية المجرية بغزو مملكة صربيا وظهور تحالفات القوى الكبرى وتموضعها على جبهتين عالميتين وتقاتلها حتى هزيمة الامبراطورية الألمانية وحلفائها.
وفي الحالة التي نحن بصددها أيضا فقد شكلت عملية الذبح الهمجية التي نفذتها داعش مساء الثلاثاء 12 أغسطس/آب 2014 بحق الصحفي الأمريكي جيمس فولي الذي كان خُطف في سوريا في نوفمبر 2012، وتهديد التنظيم بأنه سيقطع رأس الصحافي الأمريكي الآخر ستيفن جويل سوتلوف المحتجز لديها منذ اختطافه في يوليو/تموز 2013 قرب الحدود بين سوريا وتركيا، ظرفا مُشًدَّداً وحاسما للحرب الطاحنة التي ستخوضها الولايات المتحدة، ضد داعش في العراق وسوريا، خصوصا وان الأخيرة قد نفذت تهديدها وأقدمت الثلاثاء 2 سبتمبر/أيلول الجاري على قطع رأس ستيفن سوتلوف بنفس الطريقة الوحشية التي أزهقت بها روح مواطنه جيمس فولي!..فكان من المنطقي أن تزيد هذه الجريمة الموقف اشتعالا بين قطبي الحرب القادمة.
إنها إذاً الحرب الأمريكية الثانية على الارهاب بعد تلك (الأولى) التي كان أطلقها الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش بعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الارهابية على واشنطن ونيويورك. وهو – أي أوباما – الذي كان قرر سحب مسماها من التداول الاعلامي والسياسي توطئةً لإنهائها ضمن خطته الشاملة لتخليص بلاده من تركة هذه الحرب وبضمنها سحب قوات بلاده من كل من العراق وأفغانستان، والاكتفاء بـ”العمليات الجراحية” غير المكلفة التي تنفذها طائرات درون (طائرات بدون طيار) ضد مراكزتجمعات مقاتلي تنظيم القاعدة في باكستان واليمن.
ومع ذلك يبقى سلوك وردات فعل واشنطن تجاه التحدي القوي الذي أظهرته لها مليشيات داعش وأضرابها من الجماعات الاسلامية المسلحة في العراق وسوريا، مثارا للتساؤل أقلها على سبيل المثال صمت واشنطن على مليشيات النصرة رغم تجريمها أسوة بداعش في قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بالارهاب الدولي، بما فيها قراره الأخير، وملابسات تسليم جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في سوريا رهينة أمريكية الى اسرائيل عبر معبر القنيطرة الحدودي الملاصق لمرتفعات الجولان المحتلة من قبل اسرائيل، هو بيتر كيرتس الذي كان محتجزا لديها منذ عام 2012، فيما يعتقد انها مازالت تحتجز الصحفي في واشنطن بوست اوستن تايس الذي اختفى في سوريا منذ اغسطس/آب 2012؟!
والأنكى من ذلك أن الولايات المتحدة لا يبدو أنها بصدد تغيير موقفها من التنظيمات الارهابية في ضوء تجربتها الطويلة و”الحافلة” مع تنظيم القاعدة. وهو موقف تمسرح على شكل متوالية تبدأ بالرعاية والتوظيف قبل بروز التضاد الذي يتلوه الصدام الدامي الشرس. وهو ما تُرجح شواهد الأمور، حتى الآن على الأقل، تكراره مع تحدي مجابهة داعش، على ذات منوال التداعي الدرامي للتحدي الذي فرضه عليها تنظيم القاعدة، خصوصا في ضوء تردد كلمة “احتواء” داعش وليس القضاء عليها بين آونة وأخرى على ألسنة “المحللين والمراقبين والخبراء” الذين تزداد طلاتهم على وسائط الميديا المعبرة عن وجهة النظر الامريكية!
وكما في الحرب الامريكية الأولى على الارهاب ضد القاعدة، فإنه سوف لن يأخذ العالم، بما في ذلك الدول التي أعلنت “اكتتابها” في سندات الحرب الأمريكية الثانية على الارهاب – ضد داعش هذه المرة – الولايات المتحدة على محمل الجد، ما لم يقترن هدف الحرب في القضاء على داعش ماديا، بحرب موازية على جبهة الأيديولوجيا التي تواصل بذر بذور شقاقها وفتنتها في المجتمعات التي تُنثر في أراضيها “الخصيبة”.