دور الحكومات يتراجع في الغرب المتقدم وفي الشرق “المتخلف” . لكن الفارق كبير .
الدول النامية، كما هي الحال في عالمنا العربي تتفسخ لترتد إلى المكونات السابقة للدولة كالطوائف والمذاهب والعشائر، أما الدولة في العالم المتقدم فتتخلى عن الكثير من وظائفها للشركات العابرة للقارات .
لاحظ المرحوم الدكتور إسماعيل صبري عبد الله مظاهر تقلص دور الدولة لمصلحة تلك الشركات، فالبريد والبرق يفقدان أهميتهما في نظر الشركات متعددة الجنسية التي تتحرر من الأطر القومية بالاندماج أو الاستحواذ، فهذه الشركات تستخدم شركات خاصة سريعة تضمن وصول البريد عن طريقها خلال يوم أو يومين على الأكثر، وبعض شركات البريد هذه اكتسب سمعة عالمية عالية مثل “دي . إتش .إل” وسواها .
وهذا يصح على وسائل الاتصال كالفاكس والبريد الإلكتروني والإنترنت، فقد اضطرت حكومات أوروبية إلى خصخصة هذا المرفق العام لتدخل شركاته في حركة الاندماج والاستحواذ المتسارعة التي يمكن أن يهبط عددها إلى ثلاثة أو أربعة تحالفات متعددة الجنسية على مستوى العالم .
وليس أدل على ذلك من شبكة “إنترنت”، حيث مولت الدولة كل أعمال البحث والتطوير باهظة التكاليف التي استغرقت نحو عقدين، وذلك لمواجهة سيناريو حرب نووية تدمر واشنطن، في حين تكون القوات المسلحة موزعة في مناطق متعددة من الكرة الأرضية، فكان المطلوب هو اختراع شبكة يتصل المتعاملون معها بعضهم ببعض دون المرور بمركز الشبكة، وبعد انتهاء الحرب الباردة وانتفاء الحاجة العسكرية لمثل هذا السيناريو ظهرت شبكة الإنترنت للاستخدام المدني في كل الأغراض .
وعوضاً عن القضاء تلجأ الشركات الكبرى للتحكيم، فكل عقد توقعه شركة يتضمن النص على إجراءات التحكيم عند أي خلاف، لتحاشي طول أمد إجراءات التقاضي وبيروقراطيتها، وأتعاب شركات المحاماة الباهظة .
أما المظهر الأكثر أهمية فهو انتزاع الحق السيادي السياسي في سك العملة الوطنية، حيث خلقت هذه الشركات نقوداً قابلة للتداول في كل مكان، هي بطاقات الائتمان، التي لا نعرف مصدرها الأصلي حين نستخدمها، ولا يخضع إصدارها لرقابة أو إشراف الدولة الوطنية عبر بنكها المركزي .
في الغرب الرأسمالي المتطور باتت الدول بحكوماتها قيداً وبيروقراطية وكوابح إدارية ورسوماً باهظة، والشركات تريد عالماً بلا حدود: لا موانع ولا حواجز ولا رسوم أو ضرائب . وظائف الدولة عندهم تتقلص لمصلحة ما هو كوني، أو عولمي، وعندنا تتفكك الدولة لمصلحة ما هو محلي وقبلي وطائفي وعشائري .
حرر في 28/08/2014