تفتح اليوم الخميس في مدينة ساو باولو مباريات كأس العالم التي تستضيفها البرازيل وتستمر لغاية 13 تموز، حيث تختتم في العاصمة ريدوجانيرو. وهناك قلق ليس فقط في الاوساط العالمية الرياضية، بل حتى في الاوساط الحكومية، بسبب الاحتجاجات التي يمكن ان تقع خلال ايام المسابقة. ومعروف ان البرازيل تشهد منذ حزيران 2013 ، وبالتزامن مع انطلاق بطولة كأس القارات احتجاجات واسعة ضد استضافة البرازيل لبطولة كاس العالم، لقناعة اكثرية البرازيليين ان اضرار استضافة البطولة للبلاد اكثر من فوائدها.
ويحاول منذ عام العديد من علماء الاجتماع والساسة البحث اسباب في هذا الرفض في بلد يعده الكثيرون قبلة اللعبة ومريدوها، ويشيرون قي سياق البحث الى ان: منذ تولي حزب العمل البرازيلي وحلفائه ادارة شؤون البلاد قبل 11 عاما، حدث ارتفاع مستقر لمستوى المعيشة في البلاد، وادى الرفع التدريجي للحد الادنى للأجور الى ارتفاع جوهري في واردات الاوساط الاشد فقرا، وساعدت برامج الحكومة 20 مليون مواطن على مغادرة دائرة الفقر، ونمت الطبقة الوسطى، ويتمتع البرازيليون بالضمان الصحي، و اصبح في متناول الكثيرين منهم متطلبات الحياة العصرية. ولكن ما زالت البرازيل تفتقر للكثير للوصول الى تحقيق ظروف مادية لائقة بالجميع. وتعاني الحكومة التقدمية من اشكالية عدم امتلاكها على الاكثرية التي تحتاجها، في مجلسي النواب والشيوخ، لتحقيق التقدم الذي تسعى اليه في مجال توزيع الثروة الاجتماعية، فالحكومة مجبرة للتحالف مع قوى محافظة. وادى ذلك الى المراوحة السياسية.
وكانت اكثرية المحتجين في عام 2013 تنتمي الى الفئات والشرائح المستفيدة بشكل متواضع من البرامج التي نفذتها حكومة حزب العمل. وهم ملايين الشباب المشاركين في دورات التأهيل المهني المسائية، والتلاميذ، والمتدربين من الدورات التقنية، الذين يتقاضون مساعدات مالية غير كافية، ولكن لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت ، ويجيدون التشبيك بدرجة عالية، وهو ما اتاح لهم التعرف على أشكال الاحتجاجات العالمية الجديدة. ويرى محللون كبار في شؤون البرازيل، ان توقعات هؤلاء كانت اكبر و اسرع من ظروفهم المعاشية، واصطدموا بمجتمع اقل استعداد للتغيير، ولقبول طموحاتهم، وبالتالي اصيبوا بحالة من الاحباط وعدم الرضا.
وكانت بطولة كاس العالم مناسبة لتحريك غضبهم، فهم لم يحتجوا ضد اللعبة، ولكن ضد اداء الادارة العامة للاستعدادات والفعاليات وما رافقها من فساد وتلاعب. لقد وصلت الاستثمارات في تنظيم البطولة الى 8.2 مليار يورو، والناس يعتقدون، انه كان بالامكان توظيف هذه الميزانية لبناء مدارس، ومساكن، ومستشفيات افضل. ولاهمية كرة القدم و تاثيرها الواسع في الرأي العام داخل البرازيل وخارجها، قاموا بتوظيفها لاثارة انتباه حكومتهم و الرأي العام العالمي، وبهذا المعنى اصبح كأس العالم امكانية لفضح الفساد الذي رافق عملية بناء المرافق الرياضية . لقد ارتفعت الكلف الاصلية، الممولة من اموال الضرائب لبناء الملاعب، والممنوحة لشركات القطاع الخاص، بنسبة 300 في المائة. وقد ادت الحسابات الاولية غير الواقعية التي قدمتها هذه الشركات الى حالات التأخير المتوقعة في التسليم. وبالطبع كان هؤلاء يعلمون، أنه مع تزايد ضغوط (الفيفا)، تزداد الكلف طرديا مع تأخير الانجاز، وبهذه الطريقة تضاعفت التكاليف الاضافية ثلاث مرات. والاحتجاجات تفضح هذا الارتفاع الذي جاء على حساب الخدمات غير المستقرة في قطاعات التعليم، والصحة، والنقل، وغيرها.
لقد رفض المحتجون ترحيل 250 الف مواطن من محلات سكناهم، لتوفير مساحات لبناء أو توسيع المطارات والطرق السريعة والملاعب. ومن جانب آخر كانت الاحتجاجات ضد تسويق (الفيفا) التجاري لكرة القدم، انطلاقا من فكرة ليبرالية جديدة تقول: ان السوق هو اهم عامل في تحديد سمات الافراد. وقدمت وسائل الاعلام استثناءات محدودة لنماذج من نجوم كرة القدم، الذين يقبضون الملايين، لتمرير تعميم الوهم بإمكانية تحقيق نجاح اقتصادي عام من خلال الاحتراف. واحتج البرازيليون ضد (الفيفا) للشروط التي وضعتها لحماية الشركات الكبيرة الداعمة لها (كوكا كولا وماكدونالدز، بدويايزر، الخ)، والتي وافقت عليها الحكومة، وكذلك ضد منع الباعة الشعبيين من التواجد في محيط الملاعب.
الحركات الاجتماعية التي قادت الاحتجاجات تنقسم الى مجموعتين الاولى متطرفة وتعتمد العنف تحت شعار” لا لكأس العالم بدون حقوق مدنية”، والثانية التي تمثلها “اللجنة الشعبية لبطولة كأس العالم”، التي تنتقد “بطولة الفيفا”، ولكنها تبتعد عن ممارسة العنف.
وفي جميع الاحوال، فإن الاحتجاجات الحالية لم تصل إلى مستوى احتجاجات العام الفائت. وادى سلوك الجماعات المتطرفة الى شق الحركة الاحتجاجية، وليس هناك قيادة موحدة لها. وتشير احدث استطلاعات الرأي الى ان ثلثي البرازيليين ضد تنظيم الاحتجاجات خلال اسابيع البطولة. وأكثر من هذا لا يوافقون على أشكال الاحتجاج العنيفة.
ومن المعروف ان البرازيل ستشهد في الخامس من تشرين الاول المقبل انتخابات رئاسة الجمهورية التي تتمتع بأهمية قصوى ليس للبرازيل بمفردها، وانما لعموم بلدان امريكا اللاتينية. وتعد رئيسة البلاد الحالية المرشح الاوفر حظا بعد نجاحها في تجاوز الكثير من تداعيات الاحتجاجات الواسعة التي اجتاحت البرازيل في الصيف الفائت، بعد ان اكدت انها “استمعت لصوت الشارع”، ونظمت مؤتمرا لمناقشة مطالب المحتجين.