المنشور

علاقات روسيا مع الغرب

يكاد
الغضب يعمي بصر قادة أمريكا وأوروبا جراء ردة الفعل الروسية على إطاحة
الرئيس الأوكراني فيكتور ياناكوفيتش على أيدي القوميين الأوكرانيين بمساعدة
الغرب . فهذا يتوعد موسكو بطريق مسدود، وذاك يهدد باستبعادها من مجموعة
الثماني الكبرى، وثالث يهددها بالعزلة الدولية . وامتدت تعبيرات الغضب
لتتجسد في عقوبات منتقاة واتصالات هاتفية وتداع لعقد اجتماعات تنسيقية
لتدارس والاتفاق على حدود ونوعية الردود


 الانتقامية المزمع اتخاذها ضد
موسكو . وفي حمأة ذلكم الصراخ الغاضب والتهديدات المرسلة، اختفت من المشهد
فجأة صورة الاتفاق الذي كانت توصلت إليه المعارضة الأوكرانية مع الرئيس
ياناكوفيتش بوساطة الاتحاد الأوروبي، لتشكيل حكومة وحدة وطنية، والذي لم ير
النور بسبب إقدام متطرفي المعارضة على اقتحام القصر الرئاسي والمقار
الحكومية بتشجيع ودعم الأوروبيين والأمريكيين .


إنهم يلعبون مع روسيا
ومع رئيسها فلاديمير بوتين، وهو بالمقابل يبادلهم اللعب، مع الفارق أن
اللعب يجري حتى الآن في الملاعب الروسية . في الثامن من أغسطس/آب عام ،2008
حين كانت أنظار العالم كله موجهة صوب ملعب عش الطائر في بكين، حيث كانت
ستنطلق احتفالات الدورة الأولمبية، حرَّض الأمريكيون والأوروبيون الرئيس
الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي الموالي لهم لاستغلال الظرف والانقضاض على
جمهورية أوسيتيا الجنوبية القفقازية المجاورة لجورجيا، وهو ما حدث فعلاً،
فكان رد موسكو قوياً وخاطفاً . هذه المرة أيضاً ظنوا أن انشغال روسيا
بالألعاب الأولمبية الشتوية في سوتشي (7-23 فبراير 2014)، يعد ظرفاً مغرياً
لتحريك العناصر المتطرفة في أوكرانيا للاستيلاء على السلطة بالقوة . وهو
ما حدث أيضاً فكان الرد الروسي أيضاً قوياً وسريعاً، حيث استعاد الجيش
الروسي في حادثة تحريض ساكاشفيلي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا معاً وهدد
تبيليسي العاصمة الجورجية لولا اشتغال خطوط الهاتف الساخنة . ولم يسعف
ساكاشفيلي لا فرق حمايته “الإسرائيلية” التي فرت من مطار المدينة باتجاه
“تل أبيب” ولا أولئك الذين حرضوه على تنفيذ مغامرته .


ومن غير المرجح أن يحظى حكام كييف الجدد بمعاملة تفضيلية أحسن مما حظي به ساكاشفيلي، ممن دفعوهم لارتكاب مغامرتهم .


يعتقد
حكام كييف الجدد أن ارتماءهم الكلي والبائس في أحضان الغرب يمكن أن يجلب
لبلادهم خيرات أوروبا وأمريكا وبركاتهما . وهذه مجازفة سياسية غير حصيفة،
من حيث إن الأوروبيين والأمريكيين ليسوا في وضع مالي مريح يؤهلهم لإسعاف
أوكرانيا وإنقاذها من شبح الإفلاس . الغربيون يريدون أوكرانيا لتكون إحدى
القواعد العسكرية المتقدمة لحلفهم شمالي الأطلسي (ناتو) . كما حصل مع
بولندا الجارة اللصيقة لأوكرانيا التي ما انفكت تحرض قوميي ما وراء جبال
الكربات الأوكرانيين على الانفصال . فقد تم قبولها عضواً في الاتحاد
الأوروبي وفي حلف الناتو، ولكن عضويتها في الناتو هي الأهم، إذ إن المطلوب
منها هو القبول بتحويل أراضيها إلى قواعد عسكرية للحلف الأطلسي، فيما توفر
لها عضويتها في الاتحاد الأوروبي فرصة الحصول على بعض العطايا (ليس من
بينها العطاء المالي السخي) مثل استخدام نفوذ بلدان الاتحاد لدى سكرتارية
اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ لكي تحظى بولندا بشرف استضافة
مؤتمر أطراف الاتفاقية لدورتين متواليتين لا يفصل الأولى عن الثانية سوى 4
سنوات، مع أن عدد الدول الأعضاء في الاتفاقية يبلغ 195 دولة كثير منها
يتوق الى مثل هذه الاستضافة (مؤتمر الأطراف الرابع عشر الذي عُقد في بوزنان
في عام 2008 ومؤتمر الأطراف التاسع عشر الذي عُقد في وارسو عام 2013)، مع
ما تنطوي عليه مثل هذه الاستضافة لأكبر تجمّع عالمي من رواج فندقي
واستهلاكي لمدة أسبوعين يساعدها على إنعاش اقتصادها .


ولذلك، فإن مغامرة
الغرب بأخذ أوكرانيا في أحضانه، لن تشكل للأوروبيين إضافة اقتصادية ذات
قيمة، على الأقل في المديين القريب والمتوسط، بقدر ما تشكل إضافة
جيواستراتيجية على المدى الأبعد . فالبلاد على حافة الإفلاس، ولسوف تحتاج
إلى إسعاف مالي سريع لتمكينها خلال خمس سنوات، على الأقل، من استعادة
تماسكها المالي والاقتصادي . ذلك أن من غير المرجح أن يتم التعامل معها كما
تعاملت ألمانيا الغربية مع ألمانيا الشرقية بعد إعادة توحيدهما إثر سقوط
النظم الاشتراكية في شرقي ووسط أوروبا .


ويبقى أن بيت القصيد في هذه
المعركة الجيواستراتيجية بين الغرب وروسيا، يتمثل في سيف العقوبات الذي
أعاد الغرب إشهاره ضد روسيا، باعتباره وسيلة الضغط المناسبة لإدارة صراع من
جنس صراعات الحرب الباردة التقليدية، أي حرب العقوبات التي بقيت حتى
اللحظة في حدود اللكمات المتبادلة غير المتناسبة بالمطلق مع حدة التصريحات
والتهديدات والحرب الإعلامية، ولم تصل إلى المستوى الذي يمكن أن يهدد
ماكينة الاقتصاد لدى الطرفين . فروسيا اليوم ليست الاتحاد السوفييتي السابق
الذي لم تكن مساهمته في إجمالي الصادرات العالمية لتزيد على 10% . روسيا
اليوم تملك علاقات اقتصادية متشابكة المصالح مع الغرب، خصوصاً مع أوروبا،
فضلاً عن الاستثمارات المباشرة وغير المباشرة بمئات مليارات الدولارات لدى
الجانبين . وقبل هذا وذاك، فإن روسيا هي أكبر مُصَدِّر للنفط والغاز إلى
الاتحاد الأوروبي، فهي تضطلع بحصة تفوق 33% من واردات بلدان الاتحاد
الأوروبي من النفط ونحو 40% من وارداتها من الغاز . وهو ما ينطبق بقدر أكبر
على روسيا نفسها، ذلك أن مبيعاتها من النفط والغاز تشكل نصف إيرادات
الموازنة الروسية .


وعلى ذلك، فإن من غير المتصور أن يغامر الجانبان
بتصعيد مواجهتهما على جبهة العقوبات الاقتصادية والعقوبات المضادة . إذ إن
واقع شبكة العلاقات الاقتصادية القائمة بينهما، يُفترض أن يقيد طموحات
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الجيواستراتيجية ويحول دون مقامرته بها،
مثلما تفترض امتناع الاتحاد الأوروبي خاصةً عن إيصال حرب العقوبات إلى
مستوى الأزمة المستعصية .


تبدو حتى الآن أوكرانيا الخاسر الأكبر والوحيد
تقريباً من هذه الجولة الجديدة المتجددة من الحرب الباردة بين روسيا
والغرب . ويمكن في حال تطور الأمر أن تطال الخسائر جميع الشركاء الذين
يتقاسمون العلاقات والمتوزعين على ضفتي الطرفين المتجابهين . والصراع بهذا
المعنى لن يكون لا في مصلحة روسيا ولا في مصلحة أوروبا خصوصاً، لاسيما
ألمانيا عنوان أوروبا ورافعتها الاقتصادية .



د . محمد الصياد