حتى ما قبل ثلاث سنوات، لم يكن أحد
ليتصور أن تتمكن منظمة عسكرية صغيرة، تعمل تحت الأرض، ضمن حيز جغرافي معروف ومحاصر
بالجغرافيا، كما بالسياسة وكافة أدواتها، من القفز والتحول إلى جيوش صغيرة متنامية
العدة والعدد، انتقلت بسرعة متناهية من الحالة الدفاعية إلى الحالة الهجومية،
متسلحة بأحدث أنواع أسلحة الدمار الشامل، وهو سلاح القنابل البشرية المفخخة الذي
وإن كان محظوراً من الناحية السياسية والأخلاقية، وإلى حد ما الدينية (حيث يُشرعنه
بعض الدعاة ويُحرِّمه آخرون)، والتمدد والانتشار والتحول بسرعة البرق إلى أكثر
المنظمات العسكرية تهديداً للأمن والسلم الدوليين
.
صحيح أن الإعلام الغربي، وأتذكر منه
مجلة “الإكونومست” البريطانية وصحيفة “وول ستريت جورنال”
و”واشنطن بوست”، على سبيل المثال، أشارت في مقالات يتيمة، متفرقة
ومتباعدة زمنياً، قبل نحو سنة أو أقل، إلى عودة القاعدة من جديد للاستعراض
العملياتي الميداني في أكثر من ساحة عالمية، وتحديداً آسيوية وإفريقية، لكن
بالتأكيد ليس على هذا النحو المثير وغير المتوقع، وليس تنبُّؤاً بالحالة الحربية
العالمية واسعة النطاق التي أضحت عليها منظمة القاعدة اليوم
.
فهي – أي القاعدة – لم تعد اليوم
منظمة معزولة في جبال تورا بورا بأفغانستان أو مناطق القبائل الباكستانية في
وزيرستان، كما كانت عليه إلى ما قبل العملية الأمريكية لتصفية زعيم القاعدة أسامة
بن لادن (في 2 مايو/ آيار 2011)، بل أضحت جيشاً منظماً له قواعده الثابتة
والمتحركة على امتداد القارات الخمس . وبات واضحاً لكل ذي عقل بصير أن تنظيم
القاعدة يشن اليوم حرباً عالمية بأسلوب حرب العصابات التي تجمع بين الكر والفر
والتموضع والتمدد الميداني، بعد أن صدرت الأوامر لتشكيلاته السرية من المجندين المدربين
حول العالم والأنصار الأيديولوجيين الذين يتم تجنيدهم سواء ميدانياً أو عبر
الوسائط التكنولوجية المختلفة
.
ومن الطبيعي أن تثير مثل هذه القفزة
النوعية للتمدد العملياتي الجغرافي للقاعدة، قدراً من الأسئلة على قدر الإدهاش
الذي سببته . .من قبيل: كيف قُيّض لمثل هذه
“
الجيوش النانو” (المتناهية
الصغر) “التوالد” والتحرك بهذه القوة وهذه الخفة في وقت واحد وفي أكثر
من جبهة مفتوحة؟ ما هي مصادر تمويل هذه المنظمة العسكرية بالمال والسلاح؟ وما هي
خطوط نقل هذا التمويل وهذه الإمدادات الوفيرة والغزيرة من السلاح؟ وما هو تفسير
اختيار منطقة المشرق والمغرب العربيين لتكون ميدان الحرب العالمية للقاعدة؟ وهل
يمكن أن يجري كل هذا الانسياب لحركة الأشخاص القاعديين ولخطوط تمويلهم وإمدادهم
بالسلاح بعيداً عن أعين أجهزة الرصد والتتبع المخابراتي العالمية؟ وإذا كانت هذه
الأجهزة على بيّنة من كل هذا أو بعضه لماذا تمتنع عن الانقضاض السريع على الهدف الذي
صارت تضطره سياسته الحربية التوسعية للتخلي عن بعض حذره وتحوطه المعهودين إبان
فترة “الحرب على الإرهاب” التي شنتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11
سبتمبر؟ وغيرها من الأسئلة التي ستبقى حائرة ومعلقة من دون أن تلقى إجابات صريحة
وشافية
!
ولعل حيرة هذه الأسئلة وعدم إجابتها
ناجمان عما هو ظاهر من الغموض الذي يلف المواقف الحقيقية، وليس المعلنة، لكثير من الدول
الكبرى ورديفاتها المتحالفة أو التابعة، من منظمة القاعدة، التي تبدي حرصاً شديداً
على زيادة جرعات هذا الغموض الباغي إفشال محاولات إماطة اللثام عنه، بما يشي بأن
بعض الدول تملك نفوذاً حقيقياً على التنظيم وتفريعاته، وأنها تستخدمها ورقة ضمن
حزمة أوراقها وأدواتها الموظفة بانتقائية، سافرة أحياناً ومستترة أحياناً أخرى، في
سياستها الخارجية . وهي ورقة رابحة بالنسبة لها لا يبدو أنها مستعدة للتخلي عنها
تحت أي ظرف حتى وإن انكشف مستورها . فهي في هذه الحالة تسارع للعمل على تعميق حالة
الغموض من خلال إظهار الموقف النقيض المبعد، وليس بالضرورة المبدد للشبهة . وهذا لعمري
كاللعب بنار السلاح ذي الحدين . فالتوظيف الممنهج لورقة تشكيلات القاعدة يشبه إلى
حد بعيد تورط بعض الدول في تجارة تهريب اليورانيوم ومكونات أجهزة تخصيبه
.
والحال، إن الأسئلة التي يثيرها غموض
الموقف الدولي، وفي القلب منه الموقف الغربي، من هذا التغول المريب للقاعدة و”بناتها”،
من حيث التلكؤ في التحرك بصورة موحدة وحازمة للوقوف ضد خطرها في تأهيل وتجهيز
“القنابل البشرية” المعدة والجاهزة للتفجير في أي مكان، والمعادل، بهذا
المعنى، لقوة أحد أنواع أسلحة الدمار الشامل التي تحظر انتشارها الدول والاتفاقيات
الدولية، إن هذه الأسئلة لا تفعل سوى إحالة الباحث إلى مزيد من الإيغال في غموضها
!
أوليس غريباً ومريباً هذا
“التوالد” المتداعي سريعاً ل”مشتقات” القاعدة في مناطق عربية
بعينها؟
لتزداد الغرابة المحيّرة أكثر حين يرى
المرء بأم عينيه ما يمكن أن نعتبره “الجناح السياسي” لتنظيم القاعدة
الأم متمثلاً في القيادات ورجال الدين، وهم يعتلون المنابر ويُظهرون ولاءهم وانتماءهم
العلني والصريح للقاعدة ولكافة أفعالها الإرهابية المشينة، من دون أن يخالجهم، على
ما هو ظاهر، أي نوع من أنواع الهواجس من أن تُكشف حقيقتهم ومن ثم إدراجهم ضمن
استهدافات بعض الأجهزة الأمنية، الأجنبية على الأقل، فيجري تعقبهم والنيل منهم؟
. .
فهؤلاء يتصرفون بكل اطمئنان وبكامل حريتهم التحريضية والتعبوية
الجهادية (العسكرية) والمالية
!
وكل ذلك رغم معرفة واطلاع كافة أجهزة
الأمن الدولية، لاسيما منها الأمريكية والأوروبية، على تفاصيل الخطة الاستراتيجية الممرحلة
لمنظمة القاعدة للسيطرة على العالم بحلول عام ،2020 بدأت بما سمّته الاستراتيجية
“مرحلة الإفاقة” التي امتدت من عام 2000 حتى عام ،2003 تلتها المرحلة
الثانية مرحلة “فتح العيون” (من 2003 إلى 2006)، ثم مرحلة
“
النهوض والوقوف على القدمين” (من 2007 إلى 2010)، تبعتها
مرحلة “استعادة العافية” (2010-2013)، فالمرحلة الخامسة (2013-2016)
التي سُميت مرحلة
“
إعلان دولة الخلافة”، تليها
مرحلة “المواجهة الشاملة” (2016-2020)، وهي مرحلة ما أسمته الاستراتيجية
بداية المواجهة بين فسطاطي الإيمان والكفر التي ستندلع بعد إعلان إقامة الخلافة
الإسلامية . ليُتوج كل ذلك التخطيط بإطلاق المرحلة السابعة والأخيرة في عام 2020
والتي أُطلق عليها مرحلة
“
الانتصار النهائي” للمسلمين على
بقية العالم وإخضاعه لمشيئتهم؟
!
د . محمد الصياد