الذين آمنوا ويؤمنون بأن مطالب الديمقراطية، التي انطلقت منها ثورات
وحراكات الربيع العربي، لن يوهنها الزمن ولن تطفئ جذوتها عثرات المراحل
الانتقالية، يحتاجون أن يمعنوا النظر فيما يمكن أن يكون أصعب وأعقد تحدٍ
يقف في وجه الانتقال العربي نحو الديمقراطية. هذا التحدّي يتمثل في نوع
العقلية التي يتعامل بها الإنسان العربي مع محيطه الاجتماعي.
ذلك أن
بناء وترسيخ وتطوُّر النظام الديمقراطي في أيّ مجتمع يتطلّب وجود عقلية
مجتمعية عامة تتعامل مع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية من خلال
الآتي:
القدرة على التحليل الموضوعي الناقد تمهيداً للتجاوز نحو
الأفضل والأكثر قبولاً، ممارسة المرونة والتسامح والاحتواء في التعامل مع
القضايا ومع الآخرين، ممانعة الانزلاق نحو الخضوع للغرائز والانفعالات
البدائية، العيش في الحاضر والبناء للمستقبل، الرفض التام لممارسة الإقصاء
والتهميش لأية جماعة.
السؤال المفصلي الذي يجب أن يطرح وأن يجاب عليه
دون الإلتفات لما قاله ذلك المستشرق المتحامل أو ذاك المستغرب المسحوق هو
الآتي: هل أن العقلية العربية، التي كوّنتها معتقدات وأفكار وعادات
وسلوكيات وتصورات وممارسات المجتمعات العربية عبر القرون، ستكون قادرة على
أن تختزن داخلها متطلبات العقلية التي بدونها تفسد الديمقراطية في
المجتمعات؟
الذين كتبوا عن خصائص العقلية العربية، وهم كثيرون،
أبرزوا الخصائص التالية لهذه العقلية: إنها عقلية تبالغ في تمجيد الماضي
ورموزه لتقع في النهاية أسيرة فكر وممارسات ذلك الماضي الذي يؤدّي عدم
دراسته بصورة موضوعية ناقدة إلى هيمنة الماضي وشلل الحاضر. إنها عقلية لم
تستطع غربلة تراثها لتتجاوز قاعدته المبنيَّة على تصور رأسي للعالم كما
يصفه المفكّر الإسلامي حسن حنفي على أنه وضع «أولوية الله على العالم في
الخلق والفيض، وأولوية النّص على الواقع، وأولوية النقل على العقل، وأولوية
الحاكم على المحكوم، وأولوية الرجل على المرأة»، وما يهمنا بالنسبة
للديمقراطية هو أولوية الحاكم على المحكوم، وأولوية الرجل على المرأة، إذ
أنهما يتناقضان تماماً مع أسس ممارسة الديمقراطية.
لا أعتقد أنه قد
وجدت مجتمعات تشابك فيها إلى أقصى الحدود هيمنة التاريخ مع هيمنة التراث،
فأوجد حالة من الإرباك في عقلية المجتمع، مثلما حدث في المجتمعات العربية.
إشكالية
اختلاط التاريخ بالتراث، كما يؤكّد كاتب الفلسفة البريطاني أ. س. جريلنج،
أنه في حين أن دراسة التاريخ يمكن أن تكون مفتوحة وشاملة وتهدف لمعرفة
الحقيقة، فإن التعامل مع التراث ينطلق من اعتقادات إيمانية شبه مقدسة لا
تتردَّد في أن تتلاعب بمادة التاريخ حذفاً ومبالغةً واختراعاً وتشويهاً
لتبني أساطير حول هوية الأمة أو أصولها أو ولادتها. ولذلك يلح هذا الكاتب
على وضع حاجز بين التاريخ والتراث ليسهل التعامل مع كلٍّ منهما.
موضوع
دور التاريخ والتراث في تكوين العقلية العربية ليس موضوعاً أكاديمياً، إذ
أننا نعيش تأثيرهما في كل مناحي حياتنا اليومية وفي كل نظراتنا للأمور بما
فيها السياسة، وبالتالي بما فيها محاولة الانتقال لنظام ديمقراطي.
هنا
نواجه مشكلتنا الحقيقية. ذلك أن تاريخنا وتراثنا قد ارتبطا عبر القرون
بفكر وممارسات القبلية والعشائرية والاستبداد السياسي والفقهي والاجتماعي،
بتقديم الحاكم على المحكوم؛ بإطاعة شبه عمياء لولي الأمر؛ بخوف مريض من
مساءلة السلطة؛ بهيمنة ذكورية على المرأة وتشكيك في قدراتها العقلية
والنفسية والحياتية، وفي الفهم الخاطئ الانتهازي لموضوع الفرقة الناجية
الوحيدة التي تملك الحقيقة المطلقة، وبالتالي في حقّها أو واجبها في
الاستئصال المعنوي للآخر المختلف، في أشياء كثيرة لا يسمح المجال لتفصيلها.
والنتيجة
لكل ذلك هو بناء عقلية لا ترى مشكلة في الظلم ولا في الاستبداد، ولا في
الفروق المعيشية المعيبة بين الناس، ولا حتى في شتّى أنواع العبودية لشتّى
أنواع السلطات والرموز، وعلى الأخص في حقول السياسة والدين
والاجتماع.لنستذكر قول المهاتما غاندي الشهير بأن «الحرية والعبودية هما
حالات عقلية ذهنية»، لنرى ما فعل التاريخ والتراث بنا وهيّأنا للتعايش مع
عار العبودية.
والحل؟ هل نستسلم لذلك القدر، قدر إملاءات العقلية
المليئة بالعلل التي كونها ذلك التاريخ وذلك التراث؟ الجواب القاطع هو
كلاّ. أولاً، لأن هناك الكثيرين ممّن عملوا منذ القرن التاسع عشر لإخراج
العقلية العربية من المنزلق الذي عاشت في قاعه عبر القرون. لكن تلك
المحاولات ستحتاج إلى سنين إن لم يكن إلى قرون.
وثانياً: هناك حاجة
ملحّة في اللحظة الراهنة، لحظة الربيع العربي في صعودها وهبوطها، لإقناع
أكبر عدد من جماهير الأمة العربية باختزان على الأقل الحدّ الأدنى من
متطلبات الانتقال الديمقراطي في عقليتها الجمعية، بمحاولة القبول، إبّان
الفترة الانتقالية التي تعيشها الأمة حالياً، بتعايش تلك المتطلبات
الديمقراطية مع ما ترسَّب في الذهنية العربية عبر العصور من متطلبات
القبلية والمذهبية من جهة، ومن مقولات التراث والتاريخ المليئة بالأخطاء
والعلل من جهة أخرى.
نؤكّد مرةً أخرى بالاكتفاء حالياً بتعايش
متطلبات الديمقراطية مع المتطلبات الأخرى التي بناها التاريخ والتراث، وليس
الحديث عن الاصطدام والتضادد والاجتثاث بين تلك المتطلبات.
عملية
الإقناع تلك هي التحدّي الأكبر أمام عقلاء المساجد والحسينيات والأحزاب
والإعلام ومستعملي شبكات التواصل الاجتماعي. إنه تحدّ تثقيفي تاريخي عسير،
يتطلب الكثير من الحكمة والصّبر، ولكنّ مواجهته أصبحت ضرورةً حياتية.
علي محمد فخرو