الحوار البحريني المعنون بالوطني، وبإصرار السلطات المستدام، أنه
استكمال للحوار الوطني في شقه السياسي، الذي جل ما أنتج تعديلات في الدستور
لعام 2012، فيما يتعلق بالهوية الوطنية، بما ينال من الطرف الشعبي ويحصن
الطرف الحكومي، وبما لم يؤثر في استحواذ القرار، لمن له القرار بحسب النصوص
السابقة. فأول المآرب التي يتوجب تخطيها في الحوار القادم، هو إحداث
التغيير الحقيقي، بما يعيد توازن الحقوق ويفرض الالتزامات على أطراف
المجتمع، الحكومة كسلطة تنفيذية ليس إلا، والسلطة التشريعية في التمثيل
الحقيقي للشعب، والسلطة القضائية في استقلالها ونزاهتها، والإعلام والصحافة
الرسميان وغير الرسميين، في إخضاعهما للمبادئ الإعلامية والمحاسبة
القانونية، إزاء كل خروج بما ينال من الوحدة الوطنية والتكامل الوطني،
وأخيراً وليس آخراً، فصل الدين عن السياسة.
والسبيل الوحيد لتحقيق
ذلك وما يستتبعه من خطوات، هو إعادة صياغة دستور عقدي، بناءً على المبدأ
الفقهي الدستوري «الشعب مصدر جميع السلطات»، بمؤدى تشكيلها ومحاسبتها
وإبدالها في حال لم تحظ بالقبول الشعبي.
وللتعبير الشعبي في المحاسبة
والقرار، بالقبول من عدمه، وسيلة وحيدة لا يستقيم الحق الشعبي دونها، هي
الأمن والطمأنينة والتمكين، لجميع التوجهات الحقوقية والسياسية، المعارضة
والحكومية، على قدم المساواة، في حرية التعبير المسئولة، والخاضعة للمحاسبة
القانونية، التي لا تمس جوهر الحق، فلا ملاحقات أمنية ولا سجون لأفراد
القوى الحقوقية والسياسية الفاعلة في المجتمع، على فعلها في التقييم
الحصيف، والكشف عن الانتهاكات والفساد، في أداء السلطات.
فطالما أن
هناك معارضة، معيشية كانت أو حقوقية أو سياسية، فالأمر ليس على ما يرام،
والمعادلة المجتمعية مختلة، لذا يلزم التواصل المباشر والحوار، هذا في حال
اراد الجميع إعادة التوازن، أما إذا ما بَطَر طرف وتطرّف لذاته وحامى عن
مستفيداته دون الآخرين، واستبعد أي طرف من الحوار، وأخرجه من المعادلة
المجتمعية، سواء بالإهمال أو بالإفراط في المعاملة القاسية، من بطش وسجن،
ومهما كانت مطالبات ذاك الطرف المعارض، فلن يكون هناك تغيير إيجابي، وان
الحال المأزومة ستظل، وبوتيرة تتنامى إلى أن تدور الدائرة للعودة إلى نقطة
البداية من جديد.
فالحوار الوطني الناجح بين الشعب وسلطاته، يستلزم
في البداية اعتراف جميع الأطراف المجتمعية بأن هناك أزمة، وعلى السلطات
أولاً، أن تمتنع أو تتوقف عن استخدام قواها ضد المعارضة، وهي المتمكنة
والمتسلحة بالنظام والعِدَد، مع وعدها الصادق والأمين بأن ينال كل صاحب حق
حقه، وأن يُجازى كل متطاول جزاء تطاوله، وذلك بما يسفر عنه الحوار من
اتفاقات وإجراءات، ولا تثريب للطرف فاقد الثقة في أي طرف آخر، أن يطلب
طرفاً دولياً أو أممياً يكون ضامناً لتنفيذ الاتفاقات، وهذا ما يعنيه
التطبيق الفعلي لمبدأ التسامح ونبذ الكراهية، عوضاً عن البيانات والمؤتمرات
والاحتفاليات، بما يفتح المجال للتعويضات والجزاءات والتنازل عن الحقوق
الجزائية ضد الأفراد والأطراف الأخرى، وبإرادة المجني عليه.
فالحوار
الوطني لعام 2014، بقيادة سمو ولي العهد، كما يبدو للخروج من ضَيِّقات
الأزمة التي عصفت بالوطن لقرابة السنوات الثلاث، ولأسباب ليست مجهولة لأي
طرف، ولم يفد في تجاوزها البطش الأمني، وسياسات وادّعاءات التخوين، لأطراف
متضررة جراء السياسات الحكومية وإجراءات أفراد متنفذين فيها، ولم يفد في
طمسها إعلام وصحافة رسميان ولا غير رسميين، من وسائل تواصل اجتماعي مفتوح
للحكومة ومواليها، قبالة التضييق فيها على المعارضين، بما فيها نشرات
الجمعيات السياسية، والزج بقيادات بعضها في غياهب السجون لمدد طويلة، ولا
التصدي العنيف للحراكات الشعبية بمليون قذيفة من مسيل الدموع الذي يطال
بقصد أو دون قصد، أماكن السكنى والعبادة، ولا مليون طلقة رصاص حي، أودت
بحيوات البعض وجرحت وآلمت الكثرة، ولا مليون قانون عقابي توصي به السلطة
التشريعية، ولا مليون حكم قضائي يطال كل المعارضين، وذلك استغلالاً للهيمنة
القائمة لتحالف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والصحافة والإعلام
للنيل من الإرادة الشعبية.
لذا فمن أراد فك عقدة الأزمة، فعليه
العمل أولاً على أساس المعيار الإنساني، ثم المواطني، ولا ثالث لهما، لا
ديني ولا مذهبي ولا طائفي ولا مصلحي لفئة دون أخرى، والاستناد إلى القانون
الدولي للحقوق المدنية والسياسية، المتساوية للمواطنين، والبدء قبل التئام
الجمع غير المستثنى منه أي طرف، حول طاولة الحوار للمصالحة، بإعادة نصاب
الحق، بإطلاق سراح جميع المعتقلين والموقوفين، والتوقف عن الملاحقات
الأمنية للمعارضين، وفتح الباب على مصراعيه للتعبير الشعبي عن مطالبه، بما
في ذلك المعارضة والأطراف الحكومية، وسحب جميع المظاهر الأمنية من قوات أمن
وعسكر وحواجز وأسلاك شائكة، وفتح المناطق المغلقة في جميع أنحاء الوطن،
لتعود ممارسات الحياة الطبيعية للمواطنين وأفراد السلطات، ويشمل ذلك دور
العبادة المهدّمة.
ونتيجةً لإفرازات الأزمة من ناحية التقوقع
المذهبي، تتفرغ السلطات الأمنية لملاحقة الداعين إلى الفرقة من جميع
الأطراف وأولها المحسوبون على السلطات، واعتماد المساحتين التقليديتين،
للتجمهرات الشعبية، دوار نصب مجلس التعاون، المحال إلى دوار الفاروق،
ومازال في وجدان المعارضة الشعبية دوار اللؤلؤة، مكاناً لتجمهر المعارضة،
وساحة مسجد الفاتح مكاناً لتجمهر الحكوميين، ولا ضير مؤقتاً من تشييد ما
شاء المتجمهرون هنا وهناك، من خيم ونُصُب، ليكون الحَكَم فيها لاحقاً
مخرجات حوار التوافق الوطني، ففي ذلك بناء لأساس أرضية صلبة يقوم عليها
الحوار الوطني، لا غالب فيها ولا مغلوب.
فلنجعل الوطن غير قابل
للقسمة، بل هو واحد يحوي جميع المواطنين، بجميع مشاربهم، ولكلٍ في عقيدته
ما يعتقد، من دون مساس بعقيدة الآخرين.
يعقوب سيادي