المنشور

«الأردوغانية» كنموذج للإسلام السياسي – منى فضل

لطالما أسهب خبراء سياسيون ومحلّلون في الحديث والترويج للإسلام السياسي
التركي وتقديم نظامه «كنموذج للمنطقة العربية»، بعضهم كان ولايزال ينظر
إليه بانبهار وإلهام لجهة التنمية الاقتصادية وإنجازاتها وتطوّر الممارسة
الديمقراطية المّميزة بتعدّد الأحزاب وتداول السلطة والانتخابات النزيهة
وتحجيم دور الجيش وتدخله في السياسة وما إلى ذلك. ترى هل رؤيتهم في محلها؟

بموضوعية
وللوهلة الأولى كان الأمر يبدو كذلك، إلا أن تطوّر الأحداث الإقليمية
وتداعياتها على الداخل التركي وتعاطي النظام معها أخلت بالرؤية الانبهارية.
أسباب ذلك عوامل متعدّدة، بعضها يتعلق بماهية النظام السياسيّ وبنيته
وممارساته التي تميّز بعضها بطابع الاستئثار بالسلطة، وبعضها الآخر ذو
علاقة بسياسات استراتيجية تحكم مصالح القوى الكبرى وتوازن نفوذها، ودلالة
ذلك في الآتي.

منذ انغماس النظام التركي في القضايا الإقليمية وبصورة
مباشرة في الأزمة السورية وموقفه إزاء ما حدث في مصر بعد ثورة يناير، أجمع
المراقبون على أنّ ثمة تحوّلات وتراجعات يمر بها النظام، ولاسيّما أن
«السياسة الأردوغانية» لم تحقّق رغبتها بإسقاط بشار الأسد، وخصوصاً أن
تركيا استعدت عدةً وعتاداً للمشاركة في توجيه أية ضربة عسكرية له. أضف إلى
ذلك تراجع موقع حليفها «الجيش الحر» الذي تدعمه وتعول عليه لصالح القوى
التكفيرية، إلى جانب خسارة مضافة بعد الإطاحة بحكم «الإخوان المسلمين»،
حلفائها في مصر، ممن كانت تأمل أنّ يشكلوا لنظامها البوابة والمرتكز الداعم
لمشروعها في الهيمنة الإقليمية على المنطقة العربية.

بيد أنّ العنصر
الذي أماط اللثام أكثر عن تلك التحولات والتراجعات جاء من شرارتين،
أولاهما احتجاج بيئي في العام الماضي سرعان ما تحوّل إلى انتفاضة «تقسيم –
جيزي» التي تولدت إثر قيام الحكومة بقطع أشجار حديقة تاريخية عامّة،
تمهيداً لتشييد ثكنة عسكرية عثمانية ومركز تجاري مكانها، في إطار خطّة لهدم
مركز أتاتورك الثقافي وبناء جامع إلى جانب نصبه وسط ساحة تقسيم. حينها عمّ
الاحتجاج الشعبي المدن تجاه هذه السياسة تحت شعار: «كل مكان تقسيم، كل
مكان مقاومة»، ما أجبر رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان على الإذعان لمطالب من
استهزأ بهم ووصفهم بالرعاع واللصوص، مستخدماً القوة المفرطة التي أدت إلى
مقتل بعضهم.

أمّا الشرارة التالية فتمثلت في «فضيحة الفساد» التي
تفجرت واتهم فيها أردوغان قوى خارجية بالتآمر عليه وعلى حزبه بالانقلاب
وزعزعة الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ، والمقصود أميركا، وإن لم يسمّها،
لِمَ لا ولسان حاله ذكر أنها «مجموعات دولية» ذات امتداد في الداخل «توجد
داخل الدولة منظمة وعصابة، لوبيات الدم والفوائد والحروب، وبعض القضاة
ينسقون مع بعض المجموعات الإجرامية… إنها تنظيمات إرهابية وقراصنة»
تماماً بحسب تعبيره. وسرعان ما كتب «ارتيم» المؤيد لحكومته «أنّ ما جرى
إعلان حرب على تركيا، يُشن فيها عدوان كثيف على مؤسّساتها الاستراتيجية
التي ألحقت بها خسائر مادية اقتصادية واستراتيجية، ولاسيّما اتفاق أربيل
بغداد الأخير الذي وضع تركيا خارج تدفق 26 مليار دولار إلى مصارفها، وتضييع
11.5 مليار دولار عليها».

وأكّد مقرب آخر للنظام «أنّ كلفة الأحداث
تقارب 50 مليار دولار، وخسائر بسبب انخفاض مؤشر البورصة بمعدل 8.2 في
المئة، وارتفاع الفوائد وتراجع سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار من
2.02 إلى 2.17 خلال 11 يوماً. كما انعكست الأزمة السياسية على الاستثمارات
الأجنبية، إذ بينت إحصاءات المصرف المركزيّ خروج مليارين وخمسمئة مليون
دولار من تركيا خلال الأسبوع الأخير من بدء فضيحة الفساد فقط».

معلوم
أن «فضيحة الفساد» طالت أركان «حزب التنمية والعدالة» الحاكم وأربعة من
وزرائه في تهم فساد ورشوة وقبض عمولات قدرت بـ 100 مليار يورو، فيما كشفت
تقارير عن صناديق أحذية مليئة بأموال قدرت بـ 4.5 ملايين دولار، عثرت عليها
الشرطة في منزل مدير المؤسسة المالية التركية «هالكبانك» المرتبطة مباشرةً
بالحكم. وكذا نوّه وزير مستقيل إلى تورط أردوغان نفسه في لعبة الفساد في
عدة قطاعات عقارية ومالية.

تبدو «فضيحة الفساد» كبيرة وضربة للنظام
النموذج، ما استدعى إعادة هيكلية الحكومة وإقالة قادة شرطة وتعيين نحو 400
شرطي ومحقّق يسحب التحقيقات من القضاء القائم، في خطوة اعتبرها المراقبون
استهدافاً لخصومه حلفاء الأمس من جماعة «فتح الله غولن» المعارضين للنظام،
بل واستئصالهم من الدولة وإغلاق مدارس مسائية تابعة لهم، ما ينذر بتوقع
استمرار الاضطرابات والتجاذبات السياسية حتى استحقاق انتخابات البلدية في
مارس/ آذار المقبل.

أحد مستشاري أردوغان وصف «جماعة غولن» بـ «حركة
خدمة»، متهماً إياها بأنها «أداة وعميلة لقوى عالمية»، فيما طالبها وزير
الخارجية بالدخول في حوار بدلاً من وضع العراقيل والحواجز، داعياً زعيمها
غولن الذي يقيم في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة الأميركية منذ
التسعينات، إلى زيارة تركيا حيث حصل على عفو عام في 2006 بعد اتهامه بقلب
نظام الحكم.

يشار إلى إنّ منظمة الأخير تضم نحو 5 ملايين عضو، ولها
أكثر من 1000 مدرسة وجامعة في 150 دولة، كما يمتلك شركات كبيرة برأسمال
يقدّر بـ 25 مليار دولار في تركيا وحول العالم. ويقال أن منظمته تتّبع
الصوفية وترفع شعارات الإسلام المنفتح على العلم والديمقراطية، أمّا جماعته
وأنصاره فهم متغلغلون في الشرطة والمخابرات والقوات المسلحة والقضاء
والإعلام والمدارس والجامعات الخاصة، كما تدور الشكوك حول علاقتها بـ «السي
آي. أي والحركة الماسونية العالمية».

قبل نشوب الصراع، أقامت «حركة
خدمة» تحالفاً قويّاً مع «حزب العدالة والتنمية» في مواجهة الجيش، خصمهما
المشترك، وذلك لتقليص هيمنته على السلطة التنفيذية والتشريعية، كما وفرت
دعماً إعلامياً وشعبياً له بل وكانت عاملاً حاسماً وراء فوز أوردغان وحزبه
في الانتخابات، إلا إنّ تفاقم الخلافات بين جماعة «غولن» والحكومة برزت بعد
اعتزام الأخيرة إلغاء الإعفاءات الضريبية للمدارس الخاصة بالجماعة وإلغاء
بعضها، وهي التي تعد مصدراً مهمّاً للأموال والنفوذ كما تشكل حاضنة ينشر
عبرها «غولن» مبادئه وتعاليمه.

ومنه كثرت الانتقادات حول سوء تقدير
وعدم إدراك أردوغان وحزبه لفهم واستيعاب بعض قواعد اللعبة السياسية وقواعد
التعامل مع التيارات السياسية الإسلامية الأخرى، فضلاً عن مغالاتهم في
تقدير قوتهم التي دفعتهم إلى اختراق النظام العربي والاستهانة بتعقيداته
ومشكلاته المزمنة، لاسيّما حين رفعوا شعار «صفر مشاكل» –أي دولة بلا
مشكلات- ما جعلهم وسط مشكلات خانقة خطيرة تخدش وضع النظام كنموذج، خصوصاً
مع ما تورده المنظمات الحقوقية من اتساع دور الاستخبارات وارتفاع حالات
التنصت على هواتف المواطنين وتوظيف ذلك ضد شخصيات عامة، بعيداً عن الالتزام
القانوني، فضلاً عن محاولة فرض زى الحشمة على النساء وأسلمة المجتمع.

خلاصة
الأمر، كل هذا وذاك أخل بفكرة الترويج للإسلام السياسي التركي كنموذج في
القبول بالآخر والعلاقة معه في البلدان العربية، فالديمقراطية الحقيقية لا
تعني البتة التغني بها شعاراً والاستئثار بالسلطة والنفوذ عملاً.

منى عباس فضل
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 4141 – الأربعاء 08 يناير 2014م الموافق 06 ربيع الاول 1435هـ