لا أعرف إن كان شباب ثورات وحراكات الربيع العربي يعون بما فيه الكفاية
والحذر ما يخططه لهم بعض الكتاب والمتحدثين العرب من إقحامهم في مناقشات
عبثية حول هذه الإيديولوجية أو ذلك الحزب، ومن تحميلهم مسئولية انفلات
الأمن في هذا القطر أو تراجع الاقتصاد السياحي في ذاك القطر الآخر.
الهدف
من كل ذلك هو إشغال شباب العرب ومناصريهم من الجماهير عن مهمتهم الأصلية:
الاستمرار في تفجير وإنضاج مسيرة الثورة العربية تمهيداً لإيصالها إلى أبعد
درجات التحقق. ولعله يجب التذكير بأن الثورة، سواء في السياسة أو الاقتصاد
أو التكنولوجيا، تعني تحوّلاً جذرياً وأساسياً يهدف إلى زوال أفكار وبنى
اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أو ثقافية سابقة لتحل محلها أفكار وبنى
جديدة تتطلبها مرحلة تاريخية جديدة.
وما كان مبرّراً الحديث عن
الحاجة لمسيرة ثورية تهدف إلى إحداث تغييرات عميقة كبرى في بنى المجتمع
العربي لو لم يثبت عبر التاريخ الطويل فشل النخب العربية والمؤسسات
العسكرية والدينية الطائفية والبيروقراطية الحكومية في قيادة المجتمعات
العربية نحو التغييرات الحضارية المطلوبة. بل ولم تفشل تلك الجهات في
القيام بذلك التغيير فقط وإنما ساهمت بأشكال مختلفة في إيصال الأمة إلى
مراحل الضعف والتخلف والتجزئة والمهانة والسقوط المذل تحت إملاءات قوى
الخارج.
ذاك الوضع العاجز هو الذي هيّأ الجماهير العربية للتوجه نحو تغييرات كبرى يعبر عنها في علوم السياسة بالتغييرات الثورية.
ولأن
المؤسسات القديمة فشلت في الماضي، وتثبت الأحداث يومياً أنها غير قادرة
على إحداث تلك التغييرات الجذرية في الحاضر، فإن المنطق يقتضي خلق قوى
مؤسسية جديدة لتقوم بتلك المهمة النهضوية.
لكن قبل الحديث عن نوع
القوى التي ستقود المجتمعات العربية نحو تلك التغييرات، دعنا ننتبه إلى أن
جماهيراً، غالبها أميّ، وعيها السياسي محدود، غالبيتها الساحقة منشغلة
بحاجاتها المعيشية اليومية، فهمها لمعاني الثورة وما تتطلبه سطحي وشعوري
آني، قدراتها على النفس الطويل والصبر على السير في الطريق النضالي الطويل
محدودة… هكذا جماهير لا يعوّل عليها لقيادة ثورات. لكن من المؤكد، كما
أثبتت أحداث السنوات الثلاث الماضية من الربيع العربي، أن تلك الجماهير
تمثّل سنداً قوياً وكنز تضحيات هائلة إذا وُجد من سيحمل المسئولية ويقود
الثورات.
هنا يعيننا تاريخ الثورات الإنسانية الكبرى الذي أكّد المرة
تلو المرة، بأنه من دون وجود أحزاب ثورية تحمل المسئولية، تتعثر الثورات
وتنتكس إن عاجلاً أو آجلاً.
بغض النظر عن الأخطاء أو التجاوزات أو
حتى الانتهازية التي رافقت بعض التنظيمات القيادية للثورات العالمية، فإن
مؤرّخي الثورات يؤكّدون الدور المهم الذي لعبه تنظيم اليعاقبة في الثورة
الفرنسية، وتنظيم المستقلين في الثورة الإنكليزية، والحزب الشيوعي في
الثورة البلشفية، وتنظيم لجان المراسلة في الثورة الأميركية.
إن
ساحات «التويتر» و»الفيس بوك» وغيرهما من ساحات الأنترنت، تساهم في خلق
ثورة ولكنها لا تقود ثورة. وكذا الأمر بالنسبة للمظاهرات الصاخبة التي تجول
في الشوارع والميادين، وكذا الأمر بالنسبة للظهور الدائم على شاشات
التلفزيون. كل ذلك يجب أن يصب في إسناد تنظيم مؤسسي سياسي ديمقراطي ثوري.
وصفة الثورية هنا لا تعني ممارسة العنف والقهر والإقصاء. إنها تعني في
الأساس عدم التفريط بعمق وشمولية وجذرية التغيرات الحضارية والإنسانية
المطلوبة.
لذا فإن شعار إسقاط هذا النظام أو إزاحة ذاك الحكم، دون أن
يرافقه الحديث عن نوع التغيرات الجذرية المطلوبة، في صورة أفكار وبرامج
وأساليب وساحات نضال، ليس شعاراً ثورياً وإنما شعاراً تصادمياً مؤقتاً سواء
فشل أو نجح. ما لم يعِ شباب الثورات، بعمق وحماس شديد، هذه المتطلبات التي
أظهر التاريخ ضرورتها لنجاح أية ثورة، وما لم يقاوموا إغراءات الدخول في
مماحكات دونكشوتية عبثية مع هذه الجهة العابثة أو تلك الجهة المتحذلقة، وما
لم يتفرّغوا لبناء الأداة السياسية الأساسية لقيادة الثورات التي فجّروها،
ما لم يفعلوا ذلك فإن آلام وأحزان ثورات وحراكات الربيع العربي ستطول،
وستدخل جماهيرهم في ظلام اليأس والاستكانة من جديد.
علي محمد فخرو