في مطلع شهر ديسمبر الجاري، أقدمت القوى الوطنية المعارضة على خطوة
إيجابية جديدة بغرض إحداث اختراق في الجمود السياسي الراهن وفتح آفاق أمام
الحل السياسي. تجسدت هذه الخطوة في إطلاقها «مبادرة سياسية» حملت اسم «من
أجل البحرين»، وهو عنوانٌ لا يخلو من دلالات وطنية وسياسية، ومن خلال هذه
المبادرة أبدت استعدادها «للدخول في حوار جاد يقود إلى توافق وطني يرتكز
على احترام حقوق الإنسان والحرية والعدالة والمواطنة المتساوية، سعياً إلى
إنتاج نظام سياسي عادل يربح فيه الوطن والمواطنون بجميع مكوّناتهم السياسية
والاجتماعية»، كما أكدت «جهوزيتها للدخول في حل سياسي وطني خالص، يجنب
بلدنا كل المؤثرات الخارجية، ويعالج كل القضايا العالقة والتداعيات التي
خلفتها الأزمة الراهنة».
وفي ختام هذه المبادرة «أعربت وبصورة لا
تحتمل اللبس أو الغموض، عن انفتاحها على مناقشة بنود هذه المبادرة مع كافة
الأطراف المعنية لتطويرها وتفعليها وإنجاحها».
وليس من قبيل الصدفة
طبعاً اختيار ذلك اليوم (2 ديسمبر 2013) موعداً لإطلاق المبادرة، إنّما
تعمّدت أن يكون قبل بدء جلسة الحوار في الرابع من ديسمبر 2013 «دون مشاركة
المعارضة»، وهو اليوم الذي تم تحديده من جانب الأطراف الأخرى «كمهلة زمنية
نهائية» على حدّ وصفهم ليكون عامل ضغط على قوى المعارضة من أجل العودة عن
قرارها في تعليق مشاركتها في جلسات الحوار، وعلى ما يبدو أن الأخوة
استمرأوا لعبة «المهل الزمنية» وحوّلوها إلى ما يشبه المسلسل، ما أن تنتهي
مهلة، حتى يقوموا بتجديد مهلة أخرى، وها نحن على موعد مع مهلة أخرى يفترض
إنها تنتهي في 24 ديسمبر الجاري.
لسنا بصدد الاجتهاد أو محاولة تفسير
أسباب الغضب العارم والهجوم الشرس على المبادرة، وعلى قوى المعارضة من
جانب السلطة وقوى الموالاة، ولما تمضي على إعلانها سوى ساعات قليلة، فقد
تابع الجميع كيف توالت ردود الأفعال المتشنجة، وكيف تبارى المسئولون في
الدولة على كيل الاتهامات المجحفة للمعارضة، بعضهم قال: «إن المعارضة لا
تملك الإرادة السياسية للدخول في حوار جاد، وإنها تريد فرض نفسها دولة داخل
دولة، وإنها تريد فرض رؤيتها على الأطراف الأخرى»، وقالت عن المبادرة
بأنها «شروط تعجيزية مرفوضة»، والبعض الآخر قال: «إن هذه المبادرة قد
تجاوزها الزمن». وقد رافق هذه التصريحات النارية تهديد ووعيد وتخيير
للمعارضة بين أمرين لا ثالث لهما، أما الإعلان عن الالتحاق بالحوار، أو
الإعلان عن الانسحاب.
هذا عن الجانب الرسمي، أما ما صدر عن القوى
السياسية الموالية، فله قصة أخرى، لأنه كشف بوضوح تام وقدم الدليل القاطع
على طبيعة العقل السياسي المنغلق والملتبس عند هذه الجمعيات، بإصرارها على
أن تجعل من نفسها مجرد آلات تابعة وصمّاء لا تفكر إلا بما تفكر به الدولة،
ولا تقول إلا ما تقوله، رافضةً إعطاء نفسها هامشاً من الاستقلالية ولو كان
محدوداً. لذلك ركبت موجة السلطة وأخذت تطلق التصريحات وتوزّعها يميناً
وشمالاً دون تبصر أو عقلانية، حتى سمعنا بعض التصريحات التي تقارب «الهزل
السياسي»، أو الأصح «الهبل السياسي» إن شئنا الدقة في الوصف.
أحدهم
قال عن المبادرة «إنها أشبه بالانقلاب الناعم»، لذلك بعد هذه المبادرة سيقع
عليهم عبء تمثيل جمهور المعارضة، وآخر قال: «إن المهلة الزمنية انتهت وأن
جمعياتهم سوف تمثل كافة الأطراف في جلسات الحوار»! واعتبر غياب المعارضة
انسحاباً من الحوار. وثالث قال: «ان الجلسات القادمة سوف تدخل في مناقشات
القضايا السياسية الرئيسية، وأن هذه الجمعيات بصدد تقديم رؤية سياسية تتضمن
كافة تصورات ومطالب مختلف فئات الشعب البحريني».
وبعيداً عن أي سجال
سياسي لا طائل منه، وبدون التوقف مطولاً أمام تلك التصريحات، خصوصاً تلك
التي تتحدّث عن تمثيل هذه الجمعيات لجماهير القوى الوطنية المعارضة، لأنها
تصريحات غير واقعية وتفتقر إلى الجدية، بل هي أقرب إلى الأوهام و»الشطحات
السياسية» التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالسياسة أو بالخطاب السياسي
الموزون، إنما ما يهمنا هنا ويستوقفنا تلك النقطة التي حملت وعود هذه
الجمعيات بتقديم «رؤيتها السياسية المعبرة عن تطلعات ومطالب كافة فئات شعب
البحرين» .
وقبل مناقشة هذه النقطة نريد أن نوجّه عدداً من التساؤلات
التي تفرض نفسها تلقائياً هنا الأول: هل الدولة عندما وجّهت الدعوة للحوار
كانت تريد أن تحاور نفسها، وتسمع صوتها فقط؟ والثاني: ترى ما هي الإجراءات
أو الخطوات التي قامت بها الدولة لبناء وتعزيز الثقة بين المتحاورين
والمساهمة في إنجاح الحوار؟ والثالث: أين هي الملامح الاشتراطية أو
الاقصائية في مبادرة المعارضة؟ والسؤال الرابع والأهم: ما الذي منع هذه
الجمعيات من تقديم رؤيتها السياسية طوال الشهور العشرة من عمر الحوار، على
الرغم من مطالبات المعارضة المستمرة بذلك؟ وهل هذه الجمعيات تمتلك حقاً
رؤيةً سياسية، وهل تمتلك القدرة والجرأة فعلاً على تضمين هذه الرؤية مطالب
كل شعب البحرين كما تدعي؟
إن مطالب شعب البحرين واضحة ومعلنة منذ ما
يزيد على ألف يوم، أي منذ بدء الحراك الشعبي السلمي في فبراير 2011، وهي
المطالب التي عملت المعارضة الوطنية على التذكير بها في كل المناسبات
الوطنية والفعاليات الجماهيرية التي تنظمها ويتجاوب معها المواطنون الذين
تتجاوز أعدادهم 150 ألف مواطن في أقل الحالات تواضعاً.
أما هذه
المطالب فإنها تتلخص في بناء دولة وطنية مدنية وديمقراطية قادرة على تحقيق
الانصهار والاندماج الوطني الناجح من خلال ترسيخ مبدأ المواطنة المتساوية.
دولة تتضمن التعايش الأخوي بين مختلف أطياف ومكونات المجتمع البحريني دون
إقحام الاختلافات العقائدية والمذهبية في المجالات السياسية، لقطع دابر
الأزمات المتكرّرة والاحتقانات التي تضعف بلدنا وتهز استقرارها. دولة تقوم
فيها بنى سياسية من أحزاب حرة وبرلمان ذي صلاحيات تشريعية ورقابية كاملة
وتشريعات دستورية وقانونية لا تقيم أي فرق أو تمييز بين المواطنين على أساس
الجنس أو العرق أو الطائفة والمذهب. دولة تنهض وتتقدم على أساس عقد
اجتماعي تتحوّل نصوصه وبنوده إلى سلوكيات وتدابير عملية لتعزيز قيم الحرية
والعدالة والمساواة والمواطنة.
وأخيراً دولة تتحوّل فيها كل المؤسسات
إلى معامل صهر لكافة المواطنين وشرائح المجتمع المختلفة من خلال إتاحة
الفرص لكل أبناء الوطن على اختلاف انتماءاتهم السياسية والمذهبية، للتواجد
والتفاعل مع هذه المؤسسات بروح ومنطلقات وطنية خالصة، بعيداً عن أية توجهات
طائفية أو مصالح فئوية وحزبية ضيقة، وأن يكون لهم دور في بناء مستقبل
دولتهم واختيار حكوماتهم ومحاسبتها.
إن أية رؤية سياسية جادة تستهدف
حقاً انتشال البلد من أزماته المستفحلة لا خيار أمامها، ولا سبيل لنجاحها
سوى التوافق على هذه القواسم والمشتركات لبناء الدولة الوطنية الجامعة، ثم
بعد ذلك إضفاء بصمة الشعب على هذه التوافقات عبر استفتاء شعبي كونه مصدر
السلطات جميعاً كقاعدة دستورية لا مناص منها.
عندما تكون الرؤية
الموعودة من جانب الأخوة بهذا المستوى من الطموح الوطني والوعي السياسي،
ستكون حتماً موضع ترحيب الجميع، وستكون المعارضة الوطنية الديمقراطية أول
المرحبين والداعمين لها.
وحتى نوفر الجهد والوقت على هذه الجمعيات
فأننا ندعوها مجدداً إلى إعادة قراءة مبادرة المعارضة «من أجل البحرين»
بعقل منفتح بعيداً عن المناكفات السياسية والمواقف المسبقة، وبعيداً عن كل
الهواجس والأوهام التي لازالت تتحكم في سلوكها وطريقة تعاطيها مع كل ما
يصدر عن المعارضة السياسية، وسوف يجدون كل الأسس والمقومات التي أشرنا
إليها عن الدولة الوطنية الديمقراطية التي يطمح لها أبناء شعب البحرين
موجودةً وكامنةً في المبادرة الأخيرة. فقط المطلوب التحلّي بالشجاعة وتوفر
حسن النوايا وصدق الإرادة السياسية.
وكلمة أخيرة نهمس بها للأخوة
الأعزاء، أن النجاح في العمل السياسي ليس أن تتعامل وتتفق مع من هو أساساً
متفق معك في الرأي والموقف، وإنّما النجاح أن تتحاور وتتفق مع من يختلف
معك وتصل معه إلى توافق مشترك، ولأن المعارضة اختارت طريق النجاح تقدّمت
بهذه المبادرة ودعت إلى الحوار انطلاقاً منها، وسوف تنجح لأن جُلّ شعب
البحرين معها، أما من يريد اختيار طريق الفشل والإخفاق فهذا شأنه وليتحمل
عواقب اختياره.