تخيلنا الكثير من أنواع الفساد، تخيلنا ملفات لا حصر لها ولا عد في
قضايا سرقات المال العام، والفساد الإداري. تخيلنا خروقات وتجاوزات تعج بها
ملفات الأجهزة الرسمية. تخيلنا صفحات بالمئات من تقارير يعدها ديوان
الرقابة المالية كل عام، ولكن لم نتخيّل أبداً أن يصل بالحكومة ووزارة
الصحة من فساد أن تبيع دماء الشعب.
ديوان الرقابة المالية في تقريره
للعام 2012 كشف عن «فساد» من نوع جديد، فقد أقدمت الحكومة على بيع دماء
الشعب المتبرع به لمساعدة المرضى المحتاجين إليها. فقد لاحظ تقرير ديوان
الرقابة المالية عدم وجود سند قانوني لبعض إيرادات الوزارة، والتي منها
رسوم مبيعات الدم، إذ كشف بأن الوزارة باعت دماً من خلال بنك الدم بمجمع
السلمانية للمستشفيات الخاصة دون وجود سند قانوني معتمد يحدد أساس احتساب
رسوم بيع الدم أو الضوابط والمعايير التي تنظم عملية البيع، إذ بلغت مبيعات
الدم في الفترة من يناير 2011 حتى 31 أغسطس 2012 (68.469 ديناراً
بحرينياً).
الشعب البحريني والمقيمون وغيرهم من المتبرعين إنسانياً
لمرضى محتاجين للدم، والحكومة تتربح من وراء ذلك، فقد سجلت الحكومة أكثر من
680 ألف دينار في 20 شهراً فقط.
ديوان الرقابة المالية وهو يتحدث عن
ذلك لم يكن يقصد أو يعترض على بيع الدماء المتبرع بها، بل جل اعتراضه على
عدم وجود تفاصيل لعمليات البيع، مثل الكمية المباعة وسعر الوحدة، والتي تتم
مباشرةً عن طريق بنك الدم، فيما عدا الفواتير التي يصدرها القسم بإجمالي
قيمة البيع.
ديوان الرقابة المالية أوصى بإصدار السند القانوني الذي
يجيز فرض الرسوم المترتبة بالتنسيق مع الجهات المختصة، ومن ثم إصدار
القرارات اللازمة المنظمة لها وضرورة قيام قسم الإيرادات بإدارة الموارد
المالية بوزارة الصحة بالتنسيق مع بنك الدم بمجمع السلمانية، للحصول على
تفاصيل عمليات بيع الدم.
وزارة الصحة سارعت لتأييد التوصيات، وأعلنت
عن توافقها معها، ووعدت بوضع آلية بين إدارة الموارد المالية وبنك الدم
للحصول على تفاصيل عمليات بيع الدم والاحتفاظ بسجل خاص يبين تفاصيل عملية
بيع دماء الشعب المتبرع بها.
من حقنا نحن شعب البحرين، أن نسأل ديوان
الرقابة المالية، ووزارة الصحة عن السند القانوني الذي يجيز لها بيع دماء
تبرع بها شعب البحرين من أجل مساعدة أخوة مرضى هم في أمسّ الحاجة لهذه
الدماء. ومن حقنا أن نفهم لماذا تقوم الحكومة ممثلة بوزارة الصحة وبنك
الدم، ببيع هذه الدماء التي تحصلت عليها بالمجان من قبل المواطنين؟
من
حقنا أن نطالب السلطة ووزارة الصحة، بإرجاع الأموال التي تحصلت عليها من
غير وجه حق، إلى الشعب، فهل بلغ بنا الحال أن تبيع الحكومة دماء الشعب؟
في
خضم مناقشاتي مع أحد الزملاء عن هذا الموضوع، خمن لي بأن الموضوع، في ظل
كونه متعلقاً ببيع الدماء على المستشفيات الخاصة، فإنه قد يتعلق بالتكلفة
المترتبة على جمع الدماء، وبالتالي فإن الوزارة لا تصرف على المستشفيات
الخاصة، ويجب على هذه المستشفيات أن تساهم في قيمة تكلفة جمع الدماء، وهذا
واجب يجب القيام به، وفرضه. ولكن، كم هي تكلفة كيس دم واحد؟ وبكم تبيع
وزارة الصحة كيس الدم على المستشفيات الخاصة؟ وبكم تبيع المستشفيات الخاصة
الدماء على المرضى من مواطنين ومقيمين ممن هم في أمسّ الحاجة إليه؟
من
الوهلة الأولى، وفي ظل عدم وضوح الصورة، أعلن ديوان الرقابة المالية عن
عجزه في الوقوف على حقيقة سعر كيس الدم، والكميات المباعة منه. والواضح أنه
لا يوجد تشريع قانوني لذلك، ومع غياب السند القانوني، فليس من حق الوزارة
أن تبيع الدماء المتبرع بها، والتربح من ورائها، وليس من حقّ المستشفيات
الخاصة تسعير أكياس الدماء بـ «مزاجها» دون رقيب أو حسيب.
الدماء
متبرع بها، أي أنها «وقف» بالمجان من قبل المواطنين للمحتاجين لها، وبيعها
مخالفة قانونية، ومخالفة أخلاقية، لأنها تعد ضمن خانة السرقة العلنية
وخيانة الأمانة، فالمواطن هدف من تبرعه بدمه أن يوصل هذا الدم للمحتاجين
إليه وبالمجان، وليس للمستشفيات الخاصة.
أحد المواطنين أخبرني بأنه
دفع لمستشفى «حكومي» مبلغاً وقدره 66 ديناراً لكيسي دم من مستشفى
السلمانية! لنتخيل أن هذا المواطن هو من تبرّع بكيسي الدم، وهو من احتاج
لهما لاحقاً، وأنه بعدما تبرع بهما لبنك الدم مجاناً، عاد ليشتريهما بـ66
ديناراً عندما احتاجهما. فهل هناك فضيحة أكبر من ذلك؟
وبما أن الدم
الذي يحصده بنك الدم من قبل المواطنين والمقيمين، وبما أن الدم وتحصيله
عملية لها تكلفة مالية، وبما أن الحكومة ملزمة بتوفير العلاج بالمجان
للمواطنين، وبما أن المستشفيات الخاصة لا غنى لها عن استخدام هذه الدماء
والاستفادة منها في عمليات العلاج، فإنه لابد من وضع تسعيرة واضحة لكيس
الدم على المستشفيات الخاصة، بما لا يتجاوز قيمة تكلفة استحصاله، بحيث تلزم
جميع المستشفيات بهذه التسعيرة، وعدم التربح من خلالها، لأنها دماء متبرع
بها، دماء شعب مطحون يحب الخير للناس ومساعدتهم.
نعم، آن الأوان، لأن نقول كفى سرقة لأموال الشعب، بل بلغ الحال لبيع دماء الشعب والتربّح من ورائها، ثم يقولون لنا… «لا تبالغوا»!
هاني الفردان