أطلق جان بول سارتر وصف “الضمير الشقي” على المثقف، كأنه بذلك يحدد مواصفات هذا المثقف الذي لا يرتاح لما هو منجز ويضع المسلمات موضع المساءلة والشك، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ويذهب إلى ما ورائها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسئولية وبالحس الإنساني العالي، وهو شقي لأنه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد والقلق، حين تكون الحقيقة لديه مفتوحة متجددة وليست وثوقيات نهائية.
يتعين التمييز بين المثقف وبين تقني المعرفة. الأول هو ذاك الذي يجعل من الأفكار موضوع عمل، يجعل منها، تأثيراً، مساهمةً، وخاصة هنا الأفكار ذات البعد الإنساني الاجتماعي الأخلاقي، أما تقني المعرفة فهو ذاك البارع في تخصصه، وربما غير البارع أيضاً، والمكتفي بهذا التخصص في معزل عن نبض الحياة. كان أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين قد صاغ هذه الفكرة بدقة حين لاحظ “أن صفة المثقف ليست مرتبطة قسراً بالمهنة وإنما هي راجعة بالأساس إلى توظيف المهنة عن طريق الأفكار ومن أجل الأفكار”.
السنوات الأخيرة، منذ مطلع التسعينات خاصة، شهدت حالة من المراجعة لدور المثقفين على الصعيد العربي، وهي مراجعات مأخوذة من سياقات فكرية وثقافية غير سياقاتنا، انصبت على تقريع المثقفين وإسقاط ما أحاط بدورهم من هالة، ولكن هذه المراجعة، للأسف، لم تكن تهدف تقريع أو كشف زيف الزائف من هؤلاء المثقفين، بقدر ما كانت ترمي لتحييد المثقف وتجريده من كل دور. ولعل في التطورات الدراماتيكية التي نعيشها ما يبلور الحاجة مجدداً لرد الاعتبار للمثقف بوصفه ضميراً، ضميراً شقياً بالتحديد.
إن المثقف الذي نحتاجه اليوم هو ذاك الذي يتوافر على عدة شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وحاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه لنزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي، وهذه الصفات هي ذاتها تلك السائدة عن صورة المثقف في العصر الحديث.
وبهذا المعنى فإن المثقف لا يمكن أن جديراً بهذا الاسم إذا كان فاقداً للعدة النظرية – الفلسفية، أو الرؤية الخاصة للحياة، التي تميزه عن الحرفي أو المهني أو التقني، فليس كافياً أن يكون الإنسان مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حَكماً على أحداث مجتمعة، إن دوره، حسب تعبير للدكتور خلدون النقيب، لا ينحصر في تقديم المعرفة وتطويرها فقط، وقادراُ بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه لبث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد، الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرحة لمريضه.
وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه للوعي النقدي، للوعي الجديد الذي لا يهادن إزاء الظواهر المعيقة للنهضة والتقدم، والمؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي لمواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في المرحلة الراهنة والمرحلة القادمة.
يروي الكاتب أنيس منصور الحكاية التالية التي جرت له في وقت ما في ستينات القرن الماضي على الأرجح، إذ حدث أن دعاه المرحوم أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الكبير يفغيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوة رسمية في رحلة إلى مدينة الأقصر، وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة: منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على متن زورق فوق سطح النيل. كان الشاعر الأجنبي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل في ما يرى. وفجأة ومن دون سابق حديث سأل الضيف مضيفيه: ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر، فيتفقون أو يختلفون ما الذي يشغلكم؟ ما هي قضيتكم؟!
يقول أنيس منصور إن السؤال فاجأ جميع من هم على الزورق، واجتهد كل مهم في تقديم إجابة. كامل الزهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة، معها أو ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً لاعتبار الفرد في مواجهة ما فعلته به الشمولية، وأحمد بهاء الدين تحدث عن أمر ثالث، وهكذا. فما كان من الشاعر الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طلب منه أن يرسم بورتريه لرجل مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم ثمة عاهة، إن أظهرها في الرسم قد يأخذ عليه ذلك، فاحتال الفنان بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف بـ “البروفيل” وما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من “بروفيلات” لواقعكم، إنكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم “البورتريه” ولجأ إلى “البروفيل”.
يضيف أنيس منصور معقباً: هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الأجنبي والتعقيب الذي قاله فيما بعد شغلاه طويلاً، وسعى للإجابة عنه في العديد من الكتب التي ألفها على مدار عشرين عاماً أو أكثر من دون أن يوفق في الإجابة كما يقول هو نفسه. ولست اتفق مع أنيس منصور، لا في الفكر وفي السلوك السياسي، ولكني أظنه مصيباً تماماً في ما ذهب إليه من أن الفكر العربي مازال مشغولاً بالجدل في قضايا قد تكون مهمة لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من اشكاليات.
إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين: الانشغال بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع، قد يكون مهماً لكنه ليس الأهم، وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار، وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يغفل حيثيات هذا الواقع، ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع، لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة أو مبتورة عن الواقع الذ تنشط فيه، تصبح رسماً أشبه بالبروفيل لا رسما للبورتريه على نحو ما ذهب الشاعر الأجنبي الذي عنه حدثنا أنيس منصور.
وفي هذا الإطار فانه ما من علاقة مليئة بالالتباس والتعقيد والتشابك والغموض كعلاقة المثقف بالسلطة. تقليدياً كانت هذه العلاقة محاطة بما هو مدعاة للفضول وللنقاش لأنها ملأى بالمفارقات. ربما لأن “سلطة” الثقافة، حين نعني بها المكانة المعنوية أو الرمزية التي تمثلها هذه الثقافة، جعلت طرفي العلاقة، أي السلطة والمثقف في حالتي تجاذب، وتراوحت هذه العلاقة بين القطيعة التي تجعل السلطة في خصام مع المثقف، خصام يصل حد اضطهاد هذا المثقف أو عزله أو محاربته، وبين تماهٍ رخيص يصبح معه المثقف أداة، ويصادر المساحة التي يجب أن تفصل بينه وبين هذه السلطة، بصرف النظر عن طبيعة هذه السلطة، لأن المثقف قد يكون موالياً لها أو منسجماً مع برامجها، ولكنه رغم ذلك مدعو لأن يدرك أن حسابات السلطة، هي في الإجمال، مختلفة عن حسابات المثقف، الذي يشتغل في حقل مختلف كلية عن الحقل السياسي المباشر الذي تشغله السلطة. إنه معني بالرموز والمفاهيم والمعاني والإشارات، بالمعادل التخيلي للواقع، الذي يقد يفترق عنه، لا بل يناقضه في العديد من الحالات.
ليست هذه الإشكالية ابنة اليوم. حتى تاريخنا العربي الإسلامي مليء بالأمثلة على العلاقة المعقدة بين المبدع والحاكم، إن أمثلة ابن خلدون على النحو الدرامي الذي صاغه سعدالله ونوس في “منمنمات تاريخية”، أو المتنبي لأدلة ساطعة إن المبدع عرضة للتقلبات في هذه العلاقة، بالشكل الذي يجعل سيرته الذاتية مثقلة باللحظات الصعبة التي عليه أن يختار أثنائها أياً من المواقع عليه أن يقف فيه، وهو اختيار نعلم أنه يتضمن محكاً عملياً لهذا المبدع، ليس فقط لأنه يتصل بمصداقيته، ولكن لأن حساسية هذا المبدع ورهافته هي التي تكون أولاً قيد الاختبار.
أطلق جان بول سارتر وصف “الضمير الشقي” على المثقف، كأنه بذلك يحدد مواصفات هذا المثقف الذي لا يرتاح لما هو منجز ويضع المسلمات موضع المساءلة والشك، ولا يقف عند حدود معرفته وتخصصه العلمي ويذهب إلى ما ورائها. إنه ضمير لأنه مفعم بالمسئولية وبالحس الإنساني العالي، وهو شقي لأنه لا يركن لليقين، ويتميز بالعقل الناقد والقلق، حين تكون الحقيقة لديه مفتوحة متجددة وليست وثوقيات نهائية.
يتعين التمييز بين المثقف وبين تقني المعرفة. الأول هو ذاك الذي يجعل من الأفكار موضوع عمل، يجعل منها، تأثيراً، مساهمةً، وخاصة هنا الأفكار ذات البعد الإنساني الاجتماعي الأخلاقي، أما تقني المعرفة فهو ذاك البارع في تخصصه، وربما غير البارع أيضاً، والمكتفي بهذا التخصص في معزل عن نبض الحياة. كان أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين قد صاغ هذه الفكرة بدقة حين لاحظ “أن صفة المثقف ليست مرتبطة قسراً بالمهنة وإنما هي راجعة بالأساس إلى توظيف المهنة عن طريق الأفكار ومن أجل الأفكار”.
السنوات الأخيرة، منذ مطلع التسعينات خاصة، شهدت حالة من المراجعة لدور المثقفين على الصعيد العربي، وهي مراجعات مأخوذة من سياقات فكرية وثقافية غير سياقاتنا، انصبت على تقريع المثقفين وإسقاط ما أحاط بدورهم من هالة، ولكن هذه المراجعة، للأسف، لم تكن تهدف تقريع أو كشف زيف الزائف من هؤلاء المثقفين، بقدر ما كانت ترمي لتحييد المثقف وتجريده من كل دور. ولعل في التطورات الدراماتيكية التي نعيشها ما يبلور الحاجة مجدداً لرد الاعتبار للمثقف بوصفه ضميراً، ضميراً شقياً بالتحديد.
إن المثقف الذي نحتاجه اليوم هو ذاك الذي يتوافر على عدة شروط، بينها استقلاليته النسبية عن البنى والولاءات التقليدية، وحاسته الانتقادية إزاء الأوضاع المحيطة به، وامتلاكه لنزعة إنسانية تحررية تجعله قادراً على إظهار حساسية مختلفة إزاء حاجات الناس، وأخيراً جمعه بين التنظير وبين الفعل الاجتماعي، وهذه الصفات هي ذاتها تلك السائدة عن صورة المثقف في العصر الحديث.
وبهذا المعنى فإن المثقف لا يمكن أن جديراً بهذا الاسم إذا كان فاقداً للعدة النظرية – الفلسفية، أو الرؤية الخاصة للحياة، التي تميزه عن الحرفي أو المهني أو التقني، فليس كافياً أن يكون الإنسان مطلعاً أو ناقلاً للمعرفة بصورة حيادية مجردة، إنما يجب أن يكون هو نفسه حَكماً على أحداث مجتمعة، إن دوره، حسب تعبير للدكتور خلدون النقيب، لا ينحصر في تقديم المعرفة وتطويرها فقط، وقادراُ بفكره أن ينازل الرؤى الفاسدة أو الزائفة، في سعيه لبث قيم جديدة، فلا يقف عند حدود الملامسة السطحية للظواهر، وإنما يوغل فيها مبضع النقد، الذي يشبه مبضع الجراح الذي يستأصل الورم، حتى لو سبب ذلك آلاماً مبرحة لمريضه.
وفق هذا القياس فإن الوظيفة الأساسية للثقافة ليست محصورة في الخلق والإبداع فحسب، وإنما في وظيفة الضبط الاجتماعي التي يمارسها المثقف من خلال إنتاجه للوعي النقدي، للوعي الجديد الذي لا يهادن إزاء الظواهر المعيقة للنهضة والتقدم، والمؤسس لقيم معرفية جديدة، والمؤصل لها في إطار السعي لمواجهة ما مجتمعاتنا بصدده من استحقاقات في المرحلة الراهنة والمرحلة القادمة.
يروي الكاتب أنيس منصور الحكاية التالية التي جرت له في وقت ما في ستينات القرن الماضي على الأرجح، إذ حدث أن دعاه المرحوم أحمد بهاء الدين هو وكامل زهيري لمرافقة الشاعر الروسي الكبير يفغيني يفتوشينكو الذي كان يزور مصر يومها بدعوة رسمية في رحلة إلى مدينة الأقصر، وفي ليلة قمرية خرج الثلاثة: منصور وبهاء الدين وزهيري إلى رحلة على متن زورق فوق سطح النيل. كان الشاعر الأجنبي مستلقياً في الزورق مأخوذاً بالقمر والليل والنيل يتأمل في ما يرى. وفجأة ومن دون سابق حديث سأل الضيف مضيفيه: ما هي القضية التي يتجادل حولها المفكرون والمثقفون في مصر، فيتفقون أو يختلفون ما الذي يشغلكم؟ ما هي قضيتكم؟!
يقول أنيس منصور إن السؤال فاجأ جميع من هم على الزورق، واجتهد كل مهم في تقديم إجابة. كامل الزهيري تحدث عن الأدب والجدل حول الواقعية كمدرسة، معها أو ضدها. منصور نفسه تحدث عن الوجودية بوصفها رداً لاعتبار الفرد في مواجهة ما فعلته به الشمولية، وأحمد بهاء الدين تحدث عن أمر ثالث، وهكذا. فما كان من الشاعر الضيف إلا أن روى لزملائه المصريين حكاية عن فنان طلب منه أن يرسم بورتريه لرجل مهم، ولكن في وجه هذا الرجل المهم ثمة عاهة، إن أظهرها في الرسم قد يأخذ عليه ذلك، فاحتال الفنان بأن رسم وجه الرجل من زاوية نظر جانبية، أو ما يعرف بـ “البروفيل” وما ذكرتموه من أجوبة ليس أكثر من “بروفيلات” لواقعكم، إنكم تتفادون النظر إلى الواقع كما هو تماماً كما فعل الفنان الذي تحاشى رسم “البورتريه” ولجأ إلى “البروفيل”.
يضيف أنيس منصور معقباً: هذا السؤال الذي طرحه الشاعر الأجنبي والتعقيب الذي قاله فيما بعد شغلاه طويلاً، وسعى للإجابة عنه في العديد من الكتب التي ألفها على مدار عشرين عاماً أو أكثر من دون أن يوفق في الإجابة كما يقول هو نفسه. ولست اتفق مع أنيس منصور، لا في الفكر وفي السلوك السياسي، ولكني أظنه مصيباً تماماً في ما ذهب إليه من أن الفكر العربي مازال مشغولاً بالجدل في قضايا قد تكون مهمة لكنها لا تشكل محور أو جوهر ما يدور في الواقع من اشكاليات.
إن هذا الفكر يقع غالباً في أحد محذورين: الانشغال بتفصيل معين من تفاصيل هذا الواقع، قد يكون مهماً لكنه ليس الأهم، وفي غمرة انشغاله بأمر الشجرة ينسى الغابة التي تتكون من آلاف الأشجار، وإما أنه يلجأ إلى التجريد الذي يغفل حيثيات هذا الواقع، ومن طبيعة الفكر أن يكون مجرداً لأنه يشتغل على القوانين العامة لحركة المجتمع، لكن هذه القوانين حين تبحث مفصولة أو مبتورة عن الواقع الذ تنشط فيه، تصبح رسماً أشبه بالبروفيل لا رسما للبورتريه على نحو ما ذهب الشاعر الأجنبي الذي عنه حدثنا أنيس منصور.
وفي هذا الإطار فانه ما من علاقة مليئة بالالتباس والتعقيد والتشابك والغموض كعلاقة المثقف بالسلطة. تقليدياً كانت هذه العلاقة محاطة بما هو مدعاة للفضول وللنقاش لأنها ملأى بالمفارقات. ربما لأن “سلطة” الثقافة، حين نعني بها المكانة المعنوية أو الرمزية التي تمثلها هذه الثقافة، جعلت طرفي العلاقة، أي السلطة والمثقف في حالتي تجاذب، وتراوحت هذه العلاقة بين القطيعة التي تجعل السلطة في خصام مع المثقف، خصام يصل حد اضطهاد هذا المثقف أو عزله أو محاربته، وبين تماهٍ رخيص يصبح معه المثقف أداة، ويصادر المساحة التي يجب أن تفصل بينه وبين هذه السلطة، بصرف النظر عن طبيعة هذه السلطة، لأن المثقف قد يكون موالياً لها أو منسجماً مع برامجها، ولكنه رغم ذلك مدعو لأن يدرك أن حسابات السلطة، هي في الإجمال، مختلفة عن حسابات المثقف، الذي يشتغل في حقل مختلف كلية عن الحقل السياسي المباشر الذي تشغله السلطة. إنه معني بالرموز والمفاهيم والمعاني والإشارات، بالمعادل التخيلي للواقع، الذي يقد يفترق عنه، لا بل يناقضه في العديد من الحالات.
ليست هذه الإشكالية ابنة اليوم. حتى تاريخنا العربي الإسلامي مليء بالأمثلة على العلاقة المعقدة بين المبدع والحاكم، إن أمثلة ابن خلدون على النحو الدرامي الذي صاغه سعدالله ونوس في “منمنمات تاريخية”، أو المتنبي لأدلة ساطعة إن المبدع عرضة للتقلبات في هذه العلاقة، بالشكل الذي يجعل سيرته الذاتية مثقلة باللحظات الصعبة التي عليه أن يختار أثنائها أياً من المواقع عليه أن يقف فيه، وهو اختيار نعلم أنه يتضمن محكاً عملياً لهذا المبدع، ليس فقط لأنه يتصل بمصداقيته، ولكن لأن حساسية هذا المبدع ورهافته هي التي تكون أولاً قيد الاختبار.