منذ أن رفعت القوى الوطنية الديمقراطية المعارضة، رسالتها إلى وزير
العدل والشئون الإسلامية والأوقاف حول قرارها بتعليق مشاركتها في جلسات
الحوار ابتداءً من جلسة 18 سبتمبر/ أيلول الماضي، ثم قيام هذه القوى بإصدار
العديد من البيانات السياسية وعقد المؤتمرات الصحافية التي أوضحت من
خلالها الأسباب التي أجبرتها على هذا القرار، وأوجزتها في استمرار
الانتهاكات والتعدي على الحرمات، وعدم احترام السلطة التزاماتها، والتهرب
من تنفيذ ما ألزمت به نفسها، بعد ما يزيد على أكثر من تسعة شهور على انطلاق
الحوار، سعت المعارضة خلالها بكل جدية ومسئولية إلى جعل هذا الحوار
تفاوضياً حقيقياً وقادراً على أن يوصل المتحاورين إلى نتائج إيجابية تلبى
شروط ومتطلبات مغادرة الأزمة.
وقد عادت قوى المعارضة مرةً أخرى يوم
الأربعاء 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وأصدرت بياناً جديداً أكدت فيه من
جديد ثوابت موقفها واستمرارها في قرار تعليق مشاركتها، نظراً لاستمرار
الأسباب الدافعة له، ولعدم حدوث أية تطورات إيجابية على الأرض تساعد على
تغيير هذا الموقف، ومذكّرةً الجانب الرسمي، وبقية الأطراف الأخرى المشاركة
في الحوار بمبادرة القوى السياسية المعارضة التي تقدّمت بها، والتي كانت
ترمي من ورائها إحداث انعطافة مهمة في مسيرة الحوار المتعثرة، وكان مصيرها
التجاهل من جانب الدولة والقوى الموالية.
نقول منذ ذلك الوقت وحتى
يومنا هذا لم تتوقف هذه الأطراف بدورها عن إصدار البيانات والتصريحات
المقابلة التي تحاول من خلالها تأكيد استمرار جلسات الحوار «التشاورية» على
حد وصفها رغم غياب قوى المعارضة، وكانت بعد كل جلسة «شكلية» تعقد تخرج
علينا ببيان أو تصريح مشحون بعبارات التهديد والوعيد، وتتفضل على المعارضة
بـ «مهل زمنية» محددة لمراجعة موقفها والعودة عن قرارها مؤكدة «عزمها على
المضي في الحوار تحت كل الظروف»، وإنها «سوف لن تنتظر طويلاً»! بل إن بعض
تلك التصريحات أشارت إلى أن الجلسات التي غابت عنها المعارضة هي من «أنجح
الجلسات» حيث جرى اعتماد وإقرار المبادئ العامة للحوار، لذلك فإن هذه
الأطراف سوف تستمر في عقد الجلسات والدخول في مناقشة الموضوعات الرئيسة بغض
النظر عن موقف المعارضة.
نحن هنا لسنا بصدد الدخول في جدال عقيم حول
طبيعة أو أهداف تلك التصريحات ومدى مصداقيتها، إنما من الضروري الإشارة
إلى حجم التناقض والتضارب الذي تتسم به والذي يكشف مدى التخبط وانعدام
الوزن السياسي عند بعض تلك العناصر التي تتصدر الواجهات الإعلامية،
والحقيقة أن بعض تلك التصريحات لا تعدو أن تكون مجرد «خواء وفقاعات
إعلامية» لا تقنع حتى أصحابها أو المقربين لهم، لأنها أقرب إلى التهريج
والتدليس السياسي الذي لا علاقة له بالعمل السياسي الحقيقي، وما يتطلبه من
اتزان ولباقة ومسئولية.
فهم تارة يتحدّثون عن «جلسات تشاورية»، بمعنى
إنها غير رسمية ولا تحمل القدرة أو الاختصاص على إقرار أي موضوع من
موضوعات الحوار، في ظل غياب أحد الأطراف الرئيسة للحوار، وإذا ما حصل أي
تجاوز في هذا المجال فإن ذلك يعد «نسفاً» لمبدأ التوافق الذي جرى اعتماده
كأساس وقاعدة لهذا الحوار. والشيء المؤكد أن هذه الأطراف تعرف جيداً أن قوى
المعارضة غير معنية وغير ملزمة بأية مسألة أو قرار هي لم تشارك في مناقشته
وإقراره. وتارةً أخرى يتحدثون عن الانتهاء من إقرار المبادئ العامة
والدخول في أجندة الحوار، دون أن يقولوا لنا وللرأي العام تحت أي مسوغ
سياسي أو قانوني جرى تمرير تلك المبادئ في جلسات «شكلية» هم يقولون عنها
بأنها «تشاورية».
هذا السؤال الذي تفرضه المعطيات الراهنة والحال
الذي وصل إليه الحوار، وانسداد آفاق الحل السياسي، يقودنا إلى سؤال آخر
يمثل جوهر وصلب حديثنا، وهو هل وصل الحوار إلى الباب المغلق الذي لا يمكن
أن يفتح؟ أم بلغ الجدار المسدود الذي لا يمكن إحداث أية ثغرة فيه؟
قبل
الإجابة على هذا السؤال، دعونا نؤكد على حقيقة باتت اليوم شاخصة لكل من
يتابع المشهد السياسي في البحرين، ويرى كيف أن الأحداث والتطورات قد صارت
في سرعتها وتزاحمها تفوق على ما يبدو قدرة أصحاب القرار على ملاحقتها
واتخاذ القرار الصائب في شأنها، لذلك نرى الاستعجال والارتباك هما الصفة
الغالبة للعديد من القرارات والإجراءات التي يتم اعتمادها في بعض القضايا،
الأمر الذي يزيد الوضع سوءًا وتعقيداً، وبالتالي زيادة انتعاش مظاهر
الاحتقان السياسي والتوتر الاجتماعي، في الوقت الذي ينبغي فيه تهيئة الظروف
المواتية للحوار واعتماد السلوك أو الطريق الذي يقرّبنا من أهدافه
المرجوة، لذلك يتحوّل الحوار الذي يفترض أنه مدخلٌ لمعالجة الأزمة ومخرجاً
للصراع السياسي القائم… يتحوّل إلى أزمة جديدة في حد ذاته، ونكون بذلك قد
أدخلنا بلدنا في مأزق جديد، وأصبحنا كمن يعالج الأزمة بمزيد من الأزمات.
ليس
فيما نقول أي مبالغة أو تجاوز للحقيقة، إذ يكفي أي مراقب يتصف بالحياد
والموضوعية، أن يجري مقاربةً سريعةً لطريقة تعاطي الجانب الرسمي مع الحوار،
في مقابل تجارب حوارية أخرى في بلدان عديدة، سوف يكتشف دون أي عناء تفرد
البحرين بخصوصية لا مثيل لها، وهي السير في الاتجاه المعاكس للقاعدة
المتعارف عليها. لذلك بدأ الحوار عندنا غير واضح وتشوبه ألف علامة استفهام،
واستمر مرتبكاً ومتعثراً لينتهي أو يتوقف عملياً بأزمة جديدة. هكذا بدأ
الحوار الأول وانتهى إلى حالةٍ من الفشل، وها نحن على ما يبدو نقترب من ذات
النتيجة في الحوار الراهن.
فالقاعدة الأصلية تقول إن أي بلد يواجه
أزمة سياسية أو اجتماعية مستعصية، كما هو حاصل عندنا، تعمل السلطات فيه بكل
السبل على البحث عن حلول عاجلة، أثمانها غير مكلفة قدر الإمكان، وتسعى إلى
عودة الاستقرار إلى البلد المضطرب وهي تدرك أن ذلك يتطلب تقديم بعض
التنازلات، والإقدام على بعض الخطوات التي تساعد على تهيئة البيئة المناسبة
لعقد الحوار وزيادة فرص نجاحه، من قبيل إطلاق سراح بعض المعتقلين في بادرة
حسن نية، ووقف الأعمال التصعيدية والاستفزازية لتبريد الأجواء وتخفيف حالة
الاحتقان، إضافةً إلى تهدئة الخطاب السياسي وترشيد الخطاب الإعلامي ليلعب
دوراً إيجابياً في إشاعة أجواء الثقة وتقريب المسافات بين المتحاورين.
وإذا
تأملنا ما هو حاصل عندنا سوف نجد شيئاًً منافياً تماماً لهذه القاعدة،
ووضعاً يتعارض كلياً مع أي منطق سياسي وأخلاقي، فالدولة الطرف المشارك
والداعي إلى الحوار، تقدم على إجراءات وقرارات غير محسوبة العواقب. وما
يثير الدهشة والاستغراب حقاً إنها –أي الدولة- تعتبر قرار المعارضة بتعليق
مشاركتها توتيراً للأوضاع وتأخيراً لفرص الحل، بينما أقل ما يقال عن
قراراتها إنها محبطة وتلقي بظلال سلبية على الحوار، بل إن كل واحد من تلك
القرارات هو بمثابة لغم يهدد بتدمير فرص الحوار وتخريب أي مسعى أو جهد صادق
في هذا المجال. ولا ندري عن أي «فرص حل» تتحدث عنها الدولة وهي التي لم
تتقدم بأي مشروع سياسي رغم مرور أكثر من عامين على اندلاع الأزمة وتفاقم
تداعياتها ومخاطرها على كل المستويات.
وهذا ما كانت المعارضة تخشاه
وتحذر منه بصورة دائمة، لأن الحوار بالنسبة إلى هذه الأخيرة لم يكن يوماً
غاية أو هدفاً بحد ذاته، إنما هو وسيلة أو طريق يجب أن ينتهي إلى غايات
وأهداف محددة، وفي المقدمة منها الانتقال إلى مرحلة جديدة، تقطع تماماً مع
مرحلة الاستبداد بكل أشكاله السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والوصول إلى
ديمقراطية حقيقية قادرة على إحداث التغيير المطلوب عبر صياغة عقد اجتماعي
جديد ينظم العلاقة بين مختلف الأطراف، أي بين السلطة وقوى المجتمع
والمؤسسات الوطنية الأخرى، وتأمين أو ضمان مصالح كل الأطراف وتحديد
التزامات كل طرف منها تجاه الطرف الآخر.
هذه هي الأهداف التي
نتوخّاها من الحوار، وليس أي شيء آخر، من أجل فتح آفاق الحل السياسي وعودة
الاستقرار سياسياً واجتماعياً، وعودة الوئام والمصالحة إلى المجتمع
البحريني، بعد أن تمّ الزجّ به في لعبة طائفية قذرة لا قبل له بها ولا
يتحمل مسئوليتها.
في إطار هذا الإدراك لمعنى الحوار، قبلت المعارضة
تلبية الدعوة والمشاركة فيه بكل جدية ومسئولية، قبلت ذلك لأنها هي من كانت
تطالب بالحوار وتدعو إليه، بينما الآخرون الذين يزايدون اليوم على المعارضة
هم من كانوا ضده، وكانوا يصرون على أن الحوار الأول الذي انعقد العام 2011
قد حقّق أغراضه رغم فشله في إحداث أي انفراج في الأزمة، لذلك هم لا
يمتلكون أية رؤية سياسية بينما المعارضة تقدّمت برؤية متكاملة تضمنت
الموضوعات والآليات والضمانات المطلوبة لنجاح الحوار. والمعارضة هي أيضاً
من طالب بعرض القرارات والصيغ الدستورية والقانونية النهائية على استفتاء
شعبي لتحقيق التوافق الوطني بشأنها، والوصول إلى تسوية وطنية يربح فيها
الجميع، وليس فيها خاسر أو متضرر.
هذه المبادرات والخطوات الإيجابية
من جانب القوى الوطنية المعارضة، قوبلت للأسف (ولازالت) بحملات إعلامية
ظالمة ومسعورة، والتحريض المستمر ضدها عبر التشهير والتشكيك في مواقفها
الوطنية واختيار سلوك المواجهة العقابية والانتقامية معها، والتي توزعت بين
استدعاءات واعتقالات ومحاكمات، وغيرها من الإجراءات والخطوات غير
القانونية التي ترمي إلى محاصرة عملها السياسي برمته. يحدث كل هذا مع
المعارضة وهي الطرف الأساسي والمعني أكثر من غيره بالحوار.
في ظلّ كل
هذه المعطيات السلبية الضاغطة، هل نتوقع أن يتقدم أو يمضي الحوار بصورة
هادئة وسلسلة دون أية إخفاقات، وهو الذي حين بدأ كان يفتقر أصلاً إلى
الجدية والرؤية الوطنية، وغابت عنه المرونة السياسية وانعدمت فيه عدالة
التمثيل بين أطرافه، ما حوّله إلى مجرد ساحةٍ للترويج السياسي والإعلامي
خارجياً وغطاءً للبطش والقمع داخلياً.