المنشور

جاسوس العالم



تحيلنا فضيحة التجسس الأمريكي على الهواتف الشخصية لقادة أقرب الدول الحليفة لها، مثل فرنسا وألمانيا، إلى رواية جورج أورويل “1984” التي كان عنوانها تنويعاً ذكياً على السنة التي كتب فيها أورويل روايته ونشرها، وهي سنة ،1948 حيث أراد تخيل ما ستفعله الدولة في الفرد بعد نحو أربعين عاماً .


سكّ الدارسون مصطلح “العالم الأورولي” نسبة إلى جورج أورويل نفسه، وهم يتحدثون عمّا تفعله الدولة الاستبدادية الحديثة من هيمنة على أذهان البشر وأرواحهم . والتفريق واجب بين صورة الدولة الاستبدادية التي نعرفها في الشرق، فالدولة الاستبدادية المعاصرة في الغرب ربما لا تحتاج إلى أقبية التعذيب وقوانين الطوارئ .


إنها تُحكم الخناق على المجتمع كله من خلال أدوات “مخملية”، يلعب الإعلام وأجهزة الاتصال الحديثة دوراً مهولاً في تكييف الرأي العام كله وفق النموذج الذي تشتهيه .


على جري أورويل كان أحد الكتاب قد تصور العيش في “بيت من الزجاج”، حيث يكون تحت أعين الجميع، ويرى الناس كل ما يقوم به . كيف يأكل وكيف يشرب، كيف يعمل وينام . ولكن ذلك حلم لا يمكن تحقيقه . ليس بوسع الإنسان أن يعيش داخل قمرة زجاجية أو من زجاج أبداً . هذا في المعنى الحرفي للموضوع، أما في المعنى المجازي فإن العالم المعاصر قد حقق ذلك، حيث إن الإنسان من حيث هو فرد باتت حياته منتهكة في أدق خصوصياتها .


ميلان كونديرا يمسك بمفارقة مُرة، حين يزيح الدثار الذي أحيطت به كلمة الشفافية، ملاحظاً التناقض الصارخ بين حقيقة أن شفافية الحياة الشخصية للفرد هي المنتهكة، فيما تبقى شؤون الدولة مكتومة وعصية على الكشف أو المعرفة . إن شؤون الدولة من حيث هي شأن عام تظل مجهولة وسرية، أما الإنسان الفرد فإنه مطالب بكشف كل التفاصيل التي تخص حياته .


لكن ما لم يخطر ببال جورج أورويل ولا ميلان كونديرا ولا كل الذين ذهب بهم الخيال مذهبه حول ما ستبلغه وسائط انتهاك أدق التفاصيل الشخصية للأفراد هو أن تقوم دولة تقدم نفسها كقائدة للعالم، بمثل هذا الانتهاك لحياة قادة وزعماء دول وأحزاب حليفة، وليست دولاً مصنفة على نحو ما بات متداولاً في الأيام الأخيرة .


لعل أمريكا بهذا أضافت إلى اللقب المتداول عنها كشرطي للعالم توصيفاً جديداً لنفسها هو: جاسوس العالم .